جمال الغيطانى اطالع الجمهورية بين الصحف فأبدا من الصفحة الأخيرة، حيث مقال محمد العزبي، إنه أحد الكبار القلائل الذين يكتبون بعمق وبعد تجربة طويلة في المسيرة المهنية مع ثقافة رفيعة وتجربة إنسانية خصبة، أمضيت بصحبته ستة شهور تقريباً في مزرعة طرة، ومعتقل القلعة، أذكر هدوءه الواثق، وجلسته فوق البرش المتصل مباشرة بالأسفلت، كان قريبا من صديق حميم وأخ عزيز اختطفه الموت مبكرا، المرحوم جلال السيد، اعتبر محمد العزبي من اكثر الخلق اتزانا ومعرفة وهدوءا من الداخل ومن أعمق الذين فهموا العالم، لذاك أقبلت بشغف علي كتابه الأخير »كُناسة الصحف« الصادر عن كتاب الجمهورية، والعنوان يتناص مع كتاب جميل شهير لأعظم ادباء الاندلس لسان الدين بن الخطيب »كناسة الدكان« ويعني ما تبقي، عنوان دقيق لمضمون كتاب محمد العزبي الذي ادهشني بكثافته، بل إنني كنت أتصور كمال معرفتي به، فإذا بمفاجآت عديدة تتوالي سواء فيما يتعلق بالصحافة ومهامه التي قام بها وأسفاره التي غطت الكوكب. هنا نري رؤية مغايرة يرجع الفضل فيها إلي الثقافة والتي تضيف إلي الإنسان بصرا غير بصره، تجعله يري ما يقع وراء الواقع، توقفت امام روايته لفترة المعتقل، وتلك تجربة أثرت في تكويني مثل الحرب، غير انني لم اكتب عنهما مباشرة، يصف محمد العزبي تجربة الاعتقال ويستدعي تفاصيلا دقيقة، غير انه ينفذ إلي جوهر القهر عندما يتحدث عن تحول الانسان إلي رقم، دفعوا به الي الزنزانة رقم 12، واصبح اسمه 12، أي إنها عملية إعدام للكائن، يقول »في الزنزانة الانفرادية يموت الزمن، وتكتشف أنه لا يوجد شيء اسمه الزمن، وان الزمن هو تعاملك مع البشر فهو الذي يحرك الحياة ويجعلك تقضي الليل والنهار دون ان تحس، في الزنزانة يتوقف الزمن لانه لا توجد حركة«، هذا ادراك انساني، فلسفي عميق لجوهر السجن لم أقابله في كل ما قرأت عن هذه التجربة، يتميز الكاتب بحس ساخر رفيع، فعندما يتناول زيارة الملك احمد فؤاد »ابن فاروق« يدخل إلي الموضوع من بطاقة رقمه القومي. ماذا كتبوا في خانة الوظيفة؟ »ملك سابق؟« يقع الكتاب في مائتين وسبعين صفحة، إلا أنني بعد قراءته داخلني يقين أنني اجتزت موسوعة ضخمة في البشر، والمكان، والتاريخ، والتأمل الساخر الدفين، والروح الهادئة التي تسري والشبيهة بملامح محمد العزبي.