أقف متأملا نتائج مجلس الحبوب العالمي وبورصة شيكاجو للحبوب التي تشير الي سرعة تزايد واردات مصر من القمح عاما بعد عام بشكل لا يخاطب المنطق وطبيعة سير الأمور. ففي عام 5002 لم تتجاوز وارداتنا من القمح 5.5 مليون طن سرعان ما ارتفعت الي 5.7 عام 7002 ثم إلي 5.9 - 01 ملايين طن للعامين الأخيرين. ليس من المقبول أن يكون السبب في سرعة مضاعفة هذه الواردات هو تضاعف عدد السكان خلال خمس سنوات فقط أو تضاعف نسبة الفقر خلال هذه الفترة الوجيزة بما زاد من استهلاك الخبز السلعة الأرخص في الأسواق والتي لا يوجد مثيل لسعرها في العالم أجمع مهما كانت درجة الفقر بالدول، أو أن يكون التضخم قد تضاعف أيضا خلال هذه السنوات الخمس بما أدي الي ارتفاع أسعار جميع السلع البديلة للخبز من أرز ومكرونة وبطاطس وبقول وبالتالي زيادة استهلاك الخبز علي حساب هذه السلع وجميع هذه الأفتراضات لا تخاطب المنطق ولا العقل ولا يسهل الاقتناع أو الاقناع بها. مجموعة الأسباب الثانية تشير إلي إحتمال تدهور إنتاجية الأصناف المصرية والتي لم يطرأ عليها تطوير خلال السنوات العشر الأخيرة حيث من الوارد علميا للأصناف الجديدة أن تعطي محصولا مرتفعا في السنوات الأولي من استنباطها سرعان ما تتدهور بعد ذلك وهو ما يبدو قريبا من المنطق العلمي حيث لم تتجاوز انتاجية الفدان من القمح هذا العام من 8 الي 01 أرادب فقط أي من 22.1 الي 5.1 طن للفدان فقط بدلا من المتوسط المعلن من وزارة الزراعة بنحو 81 أردبا للفدان (7.2 طن) والمتوسط العام المتفق عليه داخل الوزارة لمختلف أنواع الأراضي في مصر سواء القوية أو الضعيفة والصحراوية والملحية بأنه قد يكون 51 أردبا فقط للفدان (52.2 طن للفدان). ولعل السبب في تباطؤ تطوير انتاجية الفدان من القمح في مصر التدني الكبير في الميزانية المخصصة للبحوث الزراعية واسنباط وتربية الأصناف الجديدة من الحاصلات الاستراتيجية الأساسية التي تضم القمح والفول والعدس والذرة الصفراء ومحاصيل الزيوت البذرية والتي يستغرق استباط الصنف الواحد علميا نحو عشر سنوات علي الأقل حيث اصبحت هذه الميزانيات تكفي فقط لمرتبات الباحثين دون زيادة، فلم تخرج علينا مراكز البحوث الزراعية والجامعات باصناف جديدة من القمح عالي الانتاجية منذ عشر سنوات والصنفان الجديدان اللذان خرجا مؤخرا بأسماء (مصر 1) و(مصر 2) لم تمضي من تجارب اختباراتها اكثر من ثلاث سنوات فقط وهي الخاصة بمقاومة مرض الصدأ الذي يدمر محصول القمح وهذه المقاومة يمكن أن تنمكسر بين ليلة وضحاها خلال السنوات العشر الأولي من تجحارب زراعته لذلك كانت فترات الأختبار للأصناف الجديدة تتجاوز العشر سنوات لضمان استمرارية هذه المقاومة للأمراض الي جانب لاستمرار المحصول المرتفع وهو حاليا لا يتجاوز في قيمته الأصناف القائمة حاليا والتي تدور حول رقم 51 أردبا للفدان وربما تصل الي 81 أردبا فقط بينما المعدلات العالمية لأصناف الزراعات المروية من القمح تتراوح بين 52 الي 03 أردبا للفدان. ثم يأتي بعد ذلك من الأسباب تلك التي ترجع الي انخفاض عائد الفلاح من زراعة القمح والصعوبات التي توضع أمامه عاما بعد عام أمام توريده للقمح لصالح الدولة بما يؤدي بالمزارع الي عدم الانفاق الأمثل علي المحصول لزيادة غلته بتوفيره لتكاليف اضافة الأسمدة الكيميائية والتي تحتاج الي نحو 004 جنيه للفدان لا يمتلك الفلاح منها جنيها واحدا ولا تصرف له بنوك التنمية والائتمان الزراعي هذه الكميات من الأسمدة أو السلف التي يشتري بها الأسمدة تحت حساب التوريد بما يؤدي الي نقص غلة الفدان بنسبة 03٪ علي الاقل كما وأن حصاد ودراس القمح يكلف المزارعين أموالا ليست بالقليلة تستوجب ان يحافظ علي ما معه من جنيهات قليلة للعملية الأخيرة التي يجمع بعدها بعض مما أنفقه علي المحصول ويجني عائد جهد ستة أشهر كاملة. لم تتسلم الدولة هذا العام من القمح المحلي إلا 1.2 مليون طن فقط نستطيع أن نؤكد أن رُبعه مخلوط بالقمح الأوكراني والروسي لأن موسم التوريد فيه خير للجميع. هذا القمح سيكون جزءا من القمح الحكومي الضامن لانتاج الرغيف البلدي المدعم والذي يتطلب طحن 057 ألف طن شهريا باجمالي 9 ملايين طن سنويا وبالتالي فان القطاع الحكومي للدولة وحده سوف يكون ملزما هذا العام باستيراد 7 ملايين طن من القمح من البورصات العالمية لانتاج الرغيف المدعم فقط اضافة الي استيراد القطاع الخاص لكمية 3 ملايين طن أخري لانتاج المكرونة والفينو والمخبوزات الأفرنجية والحلويات والدقيق وبذلك تكون مصر مؤهلة لاحتلال قمة الدول المستوردة للقمح للعام السادس علي التوالي لان معدلات الانتاج المنخفضة للعام الحالي من القمح المحلي تشير الي عدم تجاوز انتاجنا الكلي من القمح لنحو 4 ملايين طن فقط كحد أقصي بمعدل محصول 5.1 طن للفدان لاجمالي مساحة مزروعة هذا العام بلغت 5.2 مليون فدان. السياسات المستقبلية للأمن الغذائي المصري خاصة من القمح والحاصلات الاستراتيجية الست يجب أن تعطي أولوية الأمن القومي والاستقرار المجتمعي فالعالم كله يخطط الآن لمستقبل الأمن الغذائي وأمن الطاقة حتي عام 0502 بينما ثبت لنا هذا الصيف أن التخطيط المستقبلي لأمن الطاقة في مصر ليس علي المستوي المأمول كما أثبتت أزمة القمح المحدودة في روسيا وأوكرانيا فقط هذا العام أن مستقبل الأمن الغذائي المصري بيد الغير وليس بيد المصريين وهذا ها لا نرضاه ولا يؤمن مستقبل أعرق شعب علي وجه الأرض. كاتب المقال : استاذ بكلية الزراعة جامعة القاهرة