قبل عيد ميلاده التاسع والثمانين (6 يوليو الماضي) بأسبوع أهداني أستاذنا الدكتور محمد عبد الفتاح القصاص كتابه الأخير الذي يمثل صفحات من سيرته الذاتية : »خطي في القرن العشرين وما بعده«. حمل لي الهدية صديقنا المشترك الدكتور عبد الغفار حنيش النشط في مجال الخدمة العامة والمتخصص في مقاومة التلوث الناتج عن البترول. وهو من مجالات حماية البيئة التي برز فيها الدكتور القصاص كعالم عالمي نفخر به. وأري ضرورة أن تعيد مكتبة الأسرة طباعة هذا الكتاب وتوزيعه علي أوسع نطاق. كنت أتصور أن الدولة ستحتفل بعيد ميلاد الدكتور القصاص، أو يحتفل به ما يسمي المجتمع المدني، وهو تعبير غير مفهوم وإن كان ما يعنيه مفهوما، أو تحتفل به جامعة القاهرة، أو علي الأقل كلية العلوم التي يعمل فيها ومنحها جل عمره. لكن أحدا لم يحتفل بعيد ميلاد العالم الجليل. لا أعني بالاحتفال أن تقام له حفلة ويأتون له بتورتة، وهو أبسط أنواع الاحتفال. بل عنيت احتفالا عمليا مفيدا. كنت أتصور أن جامعة القاهرة كانت ستهديه سيارة بسائق لتسهل عليه الطريق بين مكتبه في الكلية وبين بيته. فما زال العالم الجليل في هذا العمر يقف أمام سور جامعة القاهرة ينتظر »تاكسي«. هذا التصرف من الكلية أو من الجامعة ليس بهدية في واقع الأمر، إنما هو واجب، لأن الدولة تخصص سيارة بسائق لأي وكيل وزارة. هناك الآلاف من وكلاء الوزارة في الحكومة المصرية . فليعتبروا القصاص في هذا العمر وكيل وزارة. هو الذي كان يستطيع تمضية وقته بين بيته وبين النادي كما يفعل أرباب المعاشات من أعضاء النوادي . لكنه لا يستطيع أن يحيل نفسه علي المعاش. وما زال في هذا العمر يحرص علي إفادة كليته وتعليم أجيال من طلاب العلم والإشراف علي عشرات من الرسائل العلمية في علوم البيئة. إذا لم تستطع كليته أو جامعته أن تخصص له سيارة وسائقا، فعلي الأقل يركبون له جهاز تكييف في مكتبه يعينه علي تحمل قيظ الحر الملهب، كلما وصل الكهرباء الي مكتبه! أو يصدرون عنه كتابا تذكاريا فاخرا، فضلا عن سيرته الذاتية التي لا أعرف من طبعها له في كتاب من 200 صفحة متواضع الطباعة جدا. لكن العالم الجليل يعيش بلا سيارة وبلا تكييف وبلا كتاب تذكاري. ولم يطلب من أحد لا سيارة ولا تكييفا ولا كتابا . ولم ينتبه أحد إلي ما لم يطلبه، لا في عيد ميلاده ولا في غيره من الأعياد حتي في عيد الربيع!! فهل لا تعرف الدولة قدر القصاص؟ لا أعتقد. لأنها كرمته مبكرا وكرمته أكثر من مرة خلال كل عهود جمهوريات ما بعد ثورة يوليو. حصل علي وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي عام 1959 ووسام الجمهورية عام 1978 ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولي مرتين: 1981 و 1983 وجائزة الدولة التقديرية 1982. إذن لماذا نتجاهل الدكتور القصاص؟ المشكلة ليست في الدكتور القصاص شخصيا. أعتقد أنها مشكلتنا نحن كمتخلفين. تخرج من بين ظهرانينا فلتات مثل القصاص فلا نشعر بهم لأنهم لم يخرجوا نتيجة تقدم مجتمع، أو نظام حياة متكامل بجوانبه المتداخلة المترابطة: سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا. يخرج الواحد منهم لعبقرية خاصة به تمكن رغم الظروف من المحافظة عليها واجتهد في التفوق طوال حياته. فالنجاح هنا شخصي ، فردي. لا يشعر به الآخرون ولا يعنيهم. هؤلاء العباقرة الفرادي لا تجري وراءهم قنوات التليفزيون التي ازدحمت بالمئات فتنشر من خلالهم قيم العلم بدلا من قيم الجهل. يبدو أننا استمرأنا أن نكون متخلفين ، هكذا الحياة أسهل. لذا لم يؤثر فينا أمثال الدكتور القصاص. الواقع أن أمثاله يتناقصون جدا. كنت كتبت من قبل عن التناقص الحاد في أعداد كبار المبدعين من الأدباء والكتاب والفنانين ووصفت هذه الحالة بتجريف الحياة الثقافية. الواقع أن هذا التجريف في مصر في الحياة العلمية أكبر بكثير رغم وجود عشرات الجامعات والكليات والمؤسسات والجمعيات العلمية في مصر. ليس لأن التعليم يتراجع في مصر، وهذا صحيح، ولكن لأن المجتمع كله يتراجع. لدينا بالطبع آلاف من أساتذة العلوم بأنواعها البحتة والتطبيقية. لكن أحوالهم متواضعة. ولدينا مراكز بحوث علمية . لكن أوضاعها بائسة. ذهبت منذ بضع سنوات إلي أحد العلماء البارزين المشهورين بإنجازات عالمية في مجالاتهم في المركز القومي للبحوث بالدقي. وصلت إليه بعد العبور في ممرات شبه مظلمة ووجدته جالسا علي مكتب متواضع في صالة بها مكاتب مشابهة لخمسة آخرين من العلماء. وسط أثاث متهالك وأجهزة وأدوات علمية قديمة . هناك أمثلة أخري عديدة تحتاج الي مقال آخر. هذا يسمونه »عيب«. ويجب أن نخجل منه. ولا يجب أن نكتفي بالخجل، فهو كالمنكر يجب أن نغيره باليد أولا. أنا لا أعرف من سيخلف الدكتور القصاص ويكون في مثل قامته العلمية والأخلاقية، أو حتي يتجاوزه ؟ ربما هناك من لا نعرفه حاليا. لكن لماذا لا نعرفه إن كان موجودا؟ أغلب ظني أنه لا يوجد مثيل للقصاص ولا لغيره من أمثاله في مجالات العلوم الأخري. نحن في حالة جفاف علمي ووجداني كبير. من هنا علينا أن نحرص علي البقايا الباقية من علمائنا ومبدعينا وأن نعض عليهم بالنواجذ حتي لا نفقد كل اعتبار. عندما بدأت ظاهرة السحابة السوداء منذ حوالي عشر سنوات، كنت رئيسا لدار الكتب والوثائق القومية . وكنت انظم برنامجا ثقافيا في الدار أصبح تقليدا بعد ذلك. لذا سارعت باستضافة الدكتور القصاص ليحدثنا عن هذه الظاهرة. وتعلمت مساءها الكثير منه. لقد أسس العالم الجليل مدرسة البحوث البيئية الصحراوية التي اتصل عطاؤها لمدة 55 سنة تخرج فيها عشرات من حملة الدرجات العلمية العليا في مصر ودول عربية. أضافت هذه المدرسة الي معارف بيئة المناطق الجافة. وكان لها الريادة في التعريف بقضايا التصحر عالميا. وشارك في وضع خرائط البيئة لحوض البحر المتوسط. وقد نشرتها منظمة اليونسكو والمنظمة الدولية للأغذية والزراعة. وعمل كبيرا لخبراء برنامج الأممالمتحدة للبيئة من 1973 حتي 1992. وتولي مسئولية قطاع العلوم في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (اليكسو ) لمدة خمس سنوات . وصدرت له عدة كتب منها : »التصحر« و»النيل في خطر«. لذلك كان طبيعيا أن يكرمه العالم . فحصل علي أربع درجات فخرية للدكتوراه من جامعات السويد وأسيوط والخرطوم والجامعة الأمريكيةبالقاهرة . واختير زميلا للأكاديمية الوطنية للعلوم في الهند وزميلا للأكاديمية الدولية للآداب والعلوم . وعضوا في نادي روما، وهو نادي يجمع صفوة الصفوة في العالم في مجالات مختلفة. وانتخب رئيسا للاتحاد الدولي لصون الطبيعة والموارد الطبيعية لمدة ست سنوات. ويا أستاذنا الدكتور محمد القصاص. كل سنة وأنت طيب ودمت نورا لهذا العالم الغارق في ظلامه.