بعد أيام من قيام ثورة يوليو52، صدرت قرارات متتالية، أهمها: حل الأحزاب السياسية، وحل البرلمان، وإلغاء الدستور. القرارات أفزعت المفكر، المثقف، خالد محمد خالد الذي فسرها كما جاء في شهادته المنشورة في كتاب: »المثقفون وثورة يوليو« بأن الثورة انتهت إلي صيغة محددة من صور الحكم هي صيغة الحكم المطلق. كان هذا اختياراً لا اضطراراً. وإذا شئت عذراً فسأقول: إنهم اختاروا ذلك.. علي الأقل في فترة الانتقال. لكن يظل هذا مجرد عذر لا يلغي الحقيقة التي برهنت الأيام والسنوات علي صدقها لأن الحكم كان مطلقاً]. سأل د. مصطفي عبد الغني مؤلف الكتاب الأستاذ خالد محمد خالد عما فعله بعد أن توصل إلي هذا الرأي، فأجاب: [ كان أول ما فعلته أن أغلقت غرفتي علي نفسي بالمنزل، واستعنت بالله كي أنجز في أقرب وقت كتاباً كان عنوانه: »الديمقراطية أبداً«. وبالفعل.. أنجزت الكتاب في 20يوماً فقط. فقد كنت أري بوضوح أنني في صراع مع الثورة التي بدأت عهدها المجيد كما يطلق عليها بالديكتاتورية. وقلت في هذا الكتاب ما أريده صراحة حول الديمقراطية وكيف غابت عن حياتنا؟ وما هو المطلوب لإعادتها؟ و لماذا حدث ما حدث؟]. بعد ظهور كتاب خالد محمد خالد »الديمقراطية أبداً« إلتقي المؤلف بصديقه الشيخ أحمد حسن الباقوري أول وزير للأوقاف في أول وزارة للثورة وعلم منه أن بعض ضباط الثورة طالبوا بمصادرة الكتاب، لكن جمال عبدالناصر كان يشغل في هذا الوقت منصب وزير الداخلية رفض طلبهم. واستمر خالد محمد خالد يواصل إصدار مؤلفاته السياسية والإسلامية. رغم تنديد خالد محمد خالد بقرار حل الأحزاب السياسية، كمظهر من مظاهر فرض الديكتاتورية وقمع الحريات، إلاّ أنه لم ينضم كما أكد في شهادته لأي حزب من الأحزاب، ولا الجمعيات، ولا الهيئات. وتوضيحاً لهذا الموقف، قال خالد محمد خالد: [رفضت الانضمام إلي أحزاب كثيرة بذلت محاولات شتي معي للانضمام إليها، قبل الثورة، خاصة حزب »مصر الفتاة«. ما أستطيع أن أقوله اليوم بضمير مستريح إنني رفضت أن أكون ترساً في أي عجلة تديرها الحزبية في مصر. بعد قيام الثورة.. فوجئت بالرئيس جمال عبدالناصر يرسل لي ضابطين من الضباط الأحرار: »أبو الفضل الجيزاوي«، و »جمال الليثي«، حملا رسالة تطالبني بالانضمام إلي »هيئة التحرير«. واعتذرت عن عدم قبول الدعوة. وما حدث مع »هيئة التحرير« تكرر مع »الاتحاد القومي«، ثم مع »الاتحاد الاشتراكي«. كان هذا موقفي في كل مرة أُدعي فيها إلي هيئة أو اتحاد]. يقول خالد محمد خالد في شهادته إنه ظل محافظاً علي موقفه هذا حتي حدث الانفصال مع سوريا، وشكلت بعده لجنة تحضيرية عام 1964من العديد من المفكرين والمثقفين برئاسة الرئيس جمال عبدالناصر، الذي حرص علي ضم المفكر الكبير خالد محمد خالد عضواً فيها. وافق خالد محمد خالد علي الانضمام لجلسات تلك اللجنة التي تميزت بحرية المشاركين في طرح التساؤلات، والاعتراض علي بعض الإجابات، واقتراح حلول قد تتعارض مع قرارات الحكومة.. وذلك بتشجيع، وحماية، من رئيس اللجنة شخصياً. شهدت إحدي تلك الجلسات حواراً شهيراً بين الرئيس عبدالناصر وعضو اللجنة:خالدمحمد خالد، ظل حديث الناس لشهور عديدة تالية بسبب شجاعة الأسئلة التي طرحها العضو، وسعة صدر رئيس اللجنة، وذكاء إجاباته عليها.. وإن ظل الخلاف بين الرجلين قائماً، وموضوعياً.. كما أكد خالد محمد خالد في شهادته. عندما سأل د. مصطفي عبدالغني محاوره:خالد محمد خالد: » ألا تري أن عبدالناصر ضحي بالديمقراطية من أجل العدالة الاجتماعية؟، أجاب المفكر الكبير قائلاً إنه لا يري ذلك. فلو أن العدالة الاجتماعية لم يكن هناك سبيل لتحقيقها إلاّ الديكتاتورية، فقد كانت الديمقراطية كفيلة جداً أن تمنح عبدالناصر الشعبية التي يريدها وتمنحنا معه كل خبرات التحول الاشتراكي وفي الوقت نفسه تجنبنا مخاطر هذا التحول. ويقر المفكر الكبير خالد محمد خالد في شهادته بأن عبدالناصر حصل علي شعبية كاسحة لم يعرفها المصريون. فالرجل كما قال كان رمزاً حقيقياً للدولة والناس. ولا أنسي أنه حقق لمصر إنجازات كبيرة وأخطاء كارثية في الوقت نفسه. ولا أستطيع نسيان أن عبد الناصر وهو يجادلني كان شديد الذكاء. كان يملك »بوصلة« لا تخطيء اتجاه الجماهير. كان يعرف جيداً كيف يخاطبها. المثال علي ذلك: في اللجنة العليا المركزية كان كل همي إقناع ال250عضواً فيها، بينما عينا عبدالناصر كانتا علي الملايين التي تتابع ما يجري ويقال في الجلسات عبر شاشة التليفزيون. كنت أحدثه، وأسأله.. أما هو فكانت إجاباته تخاطب الجماهير أولاً.