كانت فرحة عثمان الوافرة ببشري النصر يخامرها الألم الموفور بموت (رقية).. لكن رسول الله أباها الثاكل والمثقل بالحزن يواسيه بابنته الأخري (لو عندي مئة.. زوجتك منهن.. اذا ماتت واحدة.. حلت واحدة).. لم يتزوج أحد من قبل ببنتي سيد خلق الله.. كذلك أصبح يدعي من بعد بذي النورين.. فما أضوأ قنديلك.. فيه من القبس النبوي سراجان.. ما أضوأ قنديلك ياعثمان.. فيه ضياء من أهل سماء الله.. وفيه ضياء من أهل الأرض.. كأن لقنديلك يتدلي من سقف الأفق الأسني مرآة في أحداث الناس وأمواه الغدران. كانت كل امرأة في (مكة) حين تدلل طفلا تهزج وتقول: أحبك والرحمن كحب قريش لعثمان. آثرك الله بحب الناس.. لأنك أهل للحب.. وملتجأ للناس اذا ما عض الضيق عليهم بالأسنان. تذكر (يثرب) ان جاء إليها أهلوها يشكون تغير طعم الماء لديهم إلا من بئر كانت ليهودي جشع.. فتقدم عثمان إليه يساومه حتي يقتسم البئر.. ويسمح بالسقيا في يوم شراكته بالمجان.. يومئذ يأخذ كل حاجته.. ويبور نصيب شريكك ياعثمان.. فيسعي بالنصف الآخر.. تشريه لكي يصبح كل البئر مباحا للمحتاج الظمآن. تذكر (يثرب) ان الناس بعهد الصديق أصابهم القحط.. وجاءت قافلة من ألف بعير تحمل برا وطعاما.. كانت قافلتك ياعثمان.. وحين أتاك التجار يريدون الصفقة.. ويزيدون الأثمان. قلت لهم: سبقكم الله إليها.. هي صدقة فقراء مدينتنا.. قد زاد عليكم ربي الرحمن. تاجر عثمان مع الله.. فكان نصيب الحسنة عشرا.. وجزاء الاحسان مضاعفة الاحسان. تاجر عثمان مع الله.. فكان المستبدل بالدنيا الدانية الأقطاف فراديسا قاصية.. ينعم فيها للأبد بآلاء الرضوان. راهن بجنينات زائلة الخضرة.. كي يحظي عند الله بخلد لا يفني وجنان. كان الرابح ربحا لا يقدر أن يحصيه اذا ما اختتم تجارته.. وتوسد قبلته إلا المكان. كان خزانة بيت المال بوقت الشدة قبل تسوره بالجدران. كان غنيا وسخيا.. ما أجمل أن يسخو ذو القدرة.. حتي لا تتفجر فوق الأرض براكين الأضغان.. ترمي حمما من مصهور الحقد المكبوت.. فتشب حرائق لا تهدأ في دمها نبضات النيران.. حتي يتفحم تاريخ الانسان.. فتذروه الريح رمادا في ذاكرة النسيان. ما أجمل ان يسخو ذو القدرة حتي لا تنتفض الأرض من البرد القارص.. والجوع العاض بنابيه المسنونين علي عصب الخلق العريان.. حتي لا يسخط رمل الصحراء الجاف علي زرع المرج الريان.. ويسر لرمل الساحل ويثير حفيظته.. فيسر الساحل للبحر ويوغر منه الصدر علي اليابسة فيقبل مهتاجا.. ويعم الكل الطوفان. كنت غنيا وسخيا وذكيا ياعثمان. وذكاء سراة الناس ذكاء محسوب.. يعطي الفقراء ليحفظ للمجتمع مزية الاطمئنان. كنت غنيا وسخيا وذكيا وحنونا أيضا.. تعطي ما تعطيه من القلب العامر بالحب وبالرحمة ياعثمان. لما طعن الفاروق ابن الخطاب.. وصار علي حرف الدنيا والآخرة.. دعاه القوم إلي استخلاف أمير للأمة من بعد.. فقال: ادعوا رهط الشوري الستة يأتمرون ثلاثة أيام حتي يختاروا فيما بينهم رجلا.. فاختاروا عثمان. »اني زام نفسي بزمام.. اني ملجمها بلجام.. ومناولكم طرف الحبل.. فمن يتبعني منكم يتبعني للحق.. ومن لم يتبعني.. فالله يعزيني عنه«. كذلك قام خطيبا في الأمة يوم توليه امارتها.. من يوم توليه الأمر يحس بوطأة ما تحمله النفس من المسئولية.. والروح من الأشجان.. كان مجيئك بعد الخطب الجلل.. فقد كان الفاروق القلب النابض للأمة والدولة.. بعد اصابته أعيا الجسد المترامي أن يتماسك حينا.. فتمرد بعض الفرس وبعض الروم وبعض الترك.. تلاحقت الفتن علي الأرض الإسلامية.. وانفلتت ريح العصيان. وأتت سفن الروم تغير علي ساحل افريقيا المسلمة وساحل آسيا المسلمة.. وعلي جند الدولة في البر وفي البحر اتسع الميدان. فتصدي للمحنة فارسها ثالث خلفاء رسول الله.. أمير الأمة.. ذو النورين فكان لها خير الفرسان. وبإذن الله تعالي نستكمل فيما يقبل سيرة عثمان.