قال رسول الله لعثمان: »أجب الله إلي جنته«.. حينئذ أسلم عثمان. وكأن بغصن فؤاد المؤمن يكمن متحينا الفرصة برعم سوسنة الإيمان. ينتظر الأمر الرباني لكي تتفتح أوراق الزهرة عن طاقات العطر المحبوس اذا ما تنفرج الشفتان. أسلم عثمان إسلاما شمل النفس جميعا.. ملأ عليه جوانحه.. روض كل جياد جوارحه.. وتثبت فوق الصهوات يشد إليه سوانحه.. وامتلك زمام الوجدان. أسلم إسلاما أشعل في ليل الروح الصحراوية شمسا يخرج منها نوران: نور القلب المفطور علي حب الحق.. ونور العقل الساعي في إثر الحق.. نفتش عنه بكل مكان. كان خليقا بالنورين معا حين أتاه الصديق وقال له: »ويحك ياعثمان فإنك رجل لا يخفي الحق عليه من الباطل«.. فتهاوي عن كاهله الناحل إرث مناة واللات وعزي أو هبل.. مع ما يزحم محراب الروح من الأوثان.. كتهاوي أكداس الأعشاب الجبلية مع ما يختبيء بداخلها من آفات وعناكب وثعابين وعقارب عن فوهة البركان.. اذا ما نشط البركان. أسلم عثمان.. أصبح من أصحاب رسول الله الخلص.. أصبح موضع سر رسول الله.. وكاتبه.. وسفير رسول الله إلي ما يوفده من بلدان. مشهورا بالحنكة كان.. يعرف كيف يدير حوار الحب مع الأفئدة.. وكيف يدير حوار المنطق في نفس الوقت مع الأذهان. كيف يفاوض بالحجة والرأي الأغراب.. وكيف يؤلف بين قلوب الخلان. أصبح في مدرسة رسول الله التلميذ الأنجب.. أصبح طيبا ينشره زمن الزهر النبوي الخالد.. مع ما ينشره من أطياب في كل مكان وزمان. وتزوج عثمان (رقية) بنت رسول الله.. فأضحي صهر رسول الله.. وراح حموه رسول الله يفيض عليه.. مما يهب ابنته من حب أبوي وحنان. أضحي منتسبا للبيت النبوي.. حظيا بجوار رسول الله.. يؤاكله.. ويشاربه.. ويشاوره.. ويمازحه.. ويسر إليه بخاص سريرته.. واذا ما نظر إليه اقترب.. اقترب إلي أن تشبع منه العينان. أي جوار محتشد بالأنس وبالبهجة كنت تعيش به.. فكأنك كنت علي حرف الشمس.. لصيق النور النبوي.. فكم كنت حريا بالحسد.. خليقا بالغبطة ياعثمان. كانت (مكة) تبلو مرضا يحرم أهليها مما تمنحه الأوطان.. من حرية رأي.. ومساواة بين الناس.. وعدل وسلام.. وأمان. ولذلك لما بدأ الهمس القادم من دار (الأرقم) يعلو بحديث الثورة.. كشر ليث (قريش) الكافر عن أنياب الطغيان. زأر مخيفا اذ زأر مخوفا.. هز الأرض اذا ارتعد.. وأنشب مخلبه في أتباع رسول الله.. فهاجر مع من هاجر عثمان. أخذ (رقية) معه للحبشة حيث الملك العادل واحتمل النفي بعيدا عن عطر الأنفاس النبوية.. واحتمل البعد القاسي والحرمان. وهنالك.. راح يراجع سيرته الأولي.. كان الشاب الموسر.. ورث تجارته الواسعة الثروة من بعد أبيه.. ثري أمية عفان. ما أغراه بترك تجارته نهبا لرياح عاصفة سوف تهب علي مكة غير حساب لا يخضع للتقليدي من الكسب أو الخسران. كان الشاب المؤثر رغد العيش ولينه.. ما دل القلب علي شظف الغربة.. ما أقنعه بمعاناة الأيام الصعبة غير السر الكامن في الإيمان. كان رهيف الحس.. يري بعيون القلب الثاقبة النظرة طابور الأحداث المقبلة.. ويدرك ان الغد لو حذق الناظر يوم ثان. تخلع فيه الأرض عباءتها القاحلة كما الصحراء.. وتلبس أخري مزهرة كالبستان. أيقن عثمان أن العصر المقبل يطلع كالشمس رويدا من كنف الليل.. وقد لمعت عيناه بأحلي أحلام الانسان. أيقن ان العصر المقبل يحمل أغلي آمال الجنس البشري.. كذلك راح يحاول داخله النفس.. وراحلة الهجرة تأخذه ثانية نحو مشارف (يثرب).. لكن ما أبعده اليوم عن الأحزان.. فهناك رسول الله يقيم بها.. فيقيم الحق الواضح بين نواصيها.. ليصد الباطل عنها والبهتان. ثانية يلتزم جوار رسول الله.. وثانيه يسعي بين يدي صحبته الميمونة.. يكتب ما يمليه الوحي علي قلب رسول الله.. ويحيا كالعشب المبتل بأنداء البركة تحت ظلال القرآن. حتي كانت (بدر) حين استنفر ظلمات قريش (أبوسفيان).. كي تقف أمام النور الكوني الطالع.. لكن المشكلة ازدوجت.. اذ أن (رقية) بنت رسول الله وزوجة عثمان المحبوبة مرضت.. فتخلف عن (بدر) ليمرضها بيديه.. واذا أذن الله نواصل سيرة ذي النورين.. عثمان.