تحولات دراماتيكية باتت تفرض اعادة تعريف مفهوم القوة في العلاقات الدولية، وبالتالي مفهوم توازن القوي، فبعد ان شهد القرن العشرون تجاوز مفهوم توازن القوي التقليدي الي توازن الرعب النووي، فان ارهاصات ميلاد نوع مختلف من التوازن تشير الي ان القرن الحادي والعشرين سوف يكون محكوما بتوازن الرعب الالكتروني، بعد ان نجحت العديد من الدول في تنمية قدراتها الالكترونية بشكل هائل، ولم يعد من المحتمل اغماض العيون عن فكرة الردع الالكتروني المتبادل، وضرورة توجه القوي الكبري نحو توحيد الجهود في مواجهة مخاطر احدث نسخة من حروب المستقبل. في واشنطن ثمة مخاوف متصاعدة بشأن الهجمات الالكترونية التي تتعرض لها العديد من المواقع الحيوية والحساسة، بطول الولاياتالمتحدة وعرضها، تلك المخاوف قادت الي تفكير يتسم بالغرابة الشديدة، إذ حملت مسودة قانون اقتراحا باعتبار شبكة الانترنت ثروة قومية امريكية، يكون لساكن البيت الابيض الحق في ايقاف عملها لحماية الامن القومي! رغم ما يحمله الاقتراح في طياته من مخاطر وتهديدات مدمرة، لن يفلت منها احد بما في ذلك اضرار وعواقب وخيمة ستتحملها دفاعات واقتصادات امريكا، وجميع مرافقها الحيوية!. لكن ثمة نظرة اكثر عقلانية للامور، من خلال دعوة لتوحيد جهود القوي الالكترونية الكبري، بهدف الحد من التهديدات الموجهة للشبكات الالكترونية، والتي لا تعترف بسيادة اي دولة، فقد يقوم بشن الهجمات دول او منظمات او افراد، وبشكل اساسي فان كلا من امريكا وروسيا والصين.. بالاضافة الي 21 دولة اخري موزعة علي قارات العالم، تسعي لصياغة ضوابط من شأنها بلورة استراتيجية دولية تحدد آليات قادرة علي صد الهجمات الالكترونية. لعلها بداية متواضعة ازاء وضع بالغ الخطورة والتعقيد، في ظل امتلاك نحو 041 دولة امكانات شن حروب إلكترونية، بخلاف المنظمات الموصوفة بالارهابية والقراصنة الافراد، لكنها تبقي محاولة اذا حظيت بالمثابرة علي تطويرها، فانها سوف تجنب البشرية كوارث لا تقل في نتائجها المدمرة، ما يمكن ان تخلفه اسلحة الدمار الشامل. هذا التوجه يعني تسليماً من قوي تصورت ان بامكانها فرض هيمنتها علي الفضاء الالكتروني، باستحالة تحقيق طموحاتها علي ارض الواقع، وان عليها الاعتراف بميلاد توازن جديد للقوي، يتمثل في توازن الرعب الالكتروني، وبالتالي فالسعي لوضع القواعد القادرة علي ضبطه تحتم جهدا جماعيا، بعيدا عن اي اغراءات بدت قبل قليل محرضة علي فرض امر واقع يستند الي فائض متراكم من امكانات القوة، متمثلة في تقنيات الكترونية تفوق ما في حوزة المنافسين. غير ان الطفرات التقنية بتطوراتها المتواصلة، التي استطاعت انجازها العديد من الدول، وحتي الافراد، فرضت عمليا فكرة الردع الالكتروني المتبادل الذي يترجم توازن رعب مختلف عما ساد خلال نحو سبعة عقود، ودفع ذلك الي بحث »الكبار« عن شروط عملية تحييد متبادل، بتأثير الخوف من الاخطار الرهيبة التي تنتظر الجميع اذا استمر التصعيد بوتيرته القائمة، والاهم ان هذه المخاطر خلقت نوعا من الشعور بالتضامن بين القوي المعنية، وكأنها عملية اعادة انتاج لتداعيات مشابهة فرضها توازن الرعب النووي. إلا ان الهاجس الذي يظل محلقا فوق الرءوس، ويصعب ازاحته في مدي قريب، يتمثل فيما تفرضه التهديدات التي تطلقها القوي الخارجة عن حدود الشرعية سواء علي الصعيد الوطني او الدولي، اذ انها غير مُلزمة بقبول اي آليات لمكافحة الجرائم الالكترونية من التسلل الي التجسس وصولا الي الهجمات الشاملة المدمرة، من ثم فان الثغرات التي تعتري توازن الرعب الالكتروني يصعب مواجهتها- سريعاً- قياسا بما حدث ازاء توازن الرعب النووي!.