شهادة من بعيد في الزمان والمكان أجد من واجبي تسجيلها في نهاية تناولي لملف الاحتقان الطائفي.. وإن كنتُ أعتقد أنه لا حاجة لمزيد من الشهادات والادلة علي سلامة النسيج الوطني وقوة العروة الوثقي بين أبناء الوطن بمختلف دياناتهم وعقائدهم.. ولكننا في حاجة الي القراءة الجيدة والواعية لتاريخ مصر إذ أن في ذلك ما يكفي ويزيد لتأكيد ما ليس في حاجة الي المزيد من التأكيد.. قبل شروعي في الكتابة عن هذا الملف الحساس ،أهداني زميل دفعتي في قسم اللغة الانجليزية بآداب القاهرة المترجم المبدع أحمد محمود ، واحدا من الكتب المتميزة التي يعكف بامانة واقتدار علي ترجمتها عن تاريخ مصر الحديث وموضوعات حيوية أخري.. الكتاب ألفه الانجليزي س.ه. ليدر في أوائل القرن العشرين بعنوان "أبناء الفراعنة المحدثون.. دراسة لأخلاق الاقباط وعاداتهم".. وترجع أهمية هذا الكتاب وترجمته في هذا التوقيت بالذات ، كما يقول مترجمه أحمد محمود، الي تغطيته لثلاث نقاط مهمة هي علاقة الاقباط بأبناء وطنهم المسلمين، وعلاقتهم بالحكام المسلمين وكذلك علاقتهم بسلطات الاحتلال البريطاني.. يتحدث المؤلف عن الدكتور فانوس الذي يصفه بأنه رجل مثقف وخطيب مفوه والذي أعلن أمام حشد كبير من بلدياته المسيحيين في أسيوط أن " المسلمين والاقباط قُسِموا بالفعل، ومع ذلك فإنهم شعب واحد وموحد والاختلاف الوحيد بينهم هو اختلاف العقيدة.... وليس من الانصاف النظر اليهم علي أنهم عنصران مميزان، فمهما كانت تسميتهم فالمسلمون والاقباط أحفاد شعب مصر الذي عاش قبل سبعة آلاف سنة".. ويستشهد ليدر بحرص المصريين علي إظهار آيات التبجيل والاحترام لأولياء الله الصالحين من المسلمين والقديسين من المسيحيين والتبرك بهم.. كما يورد شهادة مندوب الاحتلال البريطاني في مصر اللورد كرومر بشأن رؤيته للعلاقة بين المسلمين والمسيحيين حيث قال في كتابه "مصر المعاصرة " إن "الفرق الوحيد بين القبطي والمسلم هو أن الاول مصري يتعبد في الكنيسة والثاني مصري يصلي في المسجد".. ويضيف المؤلف أن المصريين كانوا علي الدوام شركاء فيما يتعرض له وطنهم من مِحَن.."ففي الازمنة القديمة كانت الامة كلها تصلي للرب ضارعة كي يفيض النيل بالماء صائحين في نفس واحد.. إذ يردد المسلمون الله أكبر بينما ينشد المسيحيون "كرياليسون" (وهي كلمة قبطية معناها يارب ارحم)!!.. ويقول ليدر الذي عاش في مصر وزار معظم اقاليمها " لقد رأيتُ بنفسي كنائس قبطية بناها مسلمون ومسجدا بناه قبطي من ذوي الاملاك قبل الاحتلال البريطاني (1882) بعام أو عامين"!!.. ولكن أهم ما يورده ليدر في كتابه هو شهادته بأن الاقباط كانوا يُرَقََون الي أعلي المناصب في الدولة منذ عهد محمد علي الذي كرس مبدأ الجدارة والاهلية معيارا أساسيا لتولي المناصب.." ولكن بعد مجيء الاحتلال، والكلام ما يزال للانجليزي ليدر ، وقبل مرور أقل من ربع قرن من سيطرة البريطانيين علي البلاد، اختفي رؤساء المصالح الاقباط كلهم تقريبا حيث استمرت عملية عزلهم وإغلاق الابواب أمام عودتهم الي تلك المناصب مجددا"..فإذا كان عزل الاقباط وإقصاؤهم إرثا استعماريا فمن العار علينا الابقاء عليه ، بل إن واجبنا جميعا هو العمل الفوري والجاد علي رفضه ونبذه والتخلص منه كما تخلصنا من الاستعمار..