أمواج وشطآن منسية تأليف أحمد حمدى غانم • مريض يقلبها بين يديه.. يحاول إخفاءها.. يخفى جانب الكلمات الأجنبية.. يظهر جانب الكلمات العربية.. «مضاد حيوى.. مهدئ للآلام» أخفاها بين طيات ملابسه.. عيناه ترقبان الطريق حتى لا يراه أحد.. يتصنع الثبات فى خطواته.. يعتبره أمرا شديد الخطورة.. لم يفعله من قبل.. الهواجس تعتمل فى صدره.. يحدث نفسه بارتياب «هل ستعلن استسلامك؟! إنك أقوى من كل شىء.. حتى المرض».. الآلام تعاوده.. يتلمس بيده علبة الدواء الفارغة المخفية بين طيات ملابسه.. آملا في شراء علبة مثلها لأنها ستخفف آلامه.. يحدث نفسه معاتبا «هل فقدت ثقتك بنفسك.. بقوتك الداخلية فى قهر كل شىء.. حتى المرض؟!» تهدأ خطواته.. يفكر بالرجوع.. يتذكر كلمات من حوله ووصفهم إياه بالمغرور.. تعاوده الآلام.. يسرع الخطى نحو الصيدلية يردد فى نفسه «لم يعد هناك حل آخر». ها قد وصل.. يدلف من الباب.. نظراته القلقة تجعل الصيدلانى يشعر ببعض الارتياب.. يتنهد مظهرا بعض الجدية وهو يقول «هل من خدمة أقدمها لك».. يخفض عينيه إلى أسفل متنهدا.. الأفكار المتضاربة تحاصره.. يحدث نفسه «هل ستعلن استسلامك». تأفف الصيدلانى وهو يعيد السؤال مرة أخرى «هل من خدمة أقدمها لك سيدى؟!».. اخرج العلبة حاول قراءة اسم الدواء لم يستطع.. الكلمات ثقيلة على اللسان.. نظر الصيدلانى للعلبة وهو يردد «هل تقصد؟!» أومأ برأسه بالايجاب.. لينطلق الصيدلانى بالدواء. يضع يده على رأسه.. الأفكار المتضاربة.. يفيق على صوت الصيدلى «تفضل».. عيناه لا تتوقفان عن التحديق فى العلبة تارة وفى الصيدلى تارة أخرى.. عاد القلق يراود الصيدلى من جديد.. يحاول تصنع الابتسامة قائلا من جديد.. «تفضل سيدى».. يستجمع كل قواه قائلا «كلا لن آخذ العلبة.. إنها ليست لى».. يصمت برهة مكملا «إنها إهداء منى إليك» يتعجب الصيدلى قائلا «لكنى لا أعرفك.. لم اطلب منك شيئا».. يتراجع الصيدلى إلى الخلف وهو يراه يصرخ فيه قائلا «بل انت من تحتاج لهذه العلبة لأنك مريض.. لكنك تنكر».. نظرات الدهشة تسيطر على الصيدلى.. حاول الرد قائلا «لكن...».. لم ينتظر رد الصيدلى.. انطلق خارجا من الصيدلية.. آلامه القديمة بدأت تهدأ.. عاودته آلام جديدة.. آلام استسلامه واعترافه بأنه مريض.. يهدئ نفسه قائلا «لست وحدى مريضا.. بل الصيدلى هو الآخر مريض». ** الدنيا بحر جارف ملىء بالآلام لا يستطيع النجاة منه إلا من يذكر نفسه دائماً بامتلاكه عقلا يمكنه من السباحة ضد التيار. • المُلك شعر بسعادة غامرة.. يحملونه.. يطوفون به.. ينظرون إليه من الشرفات.. شعر أنه على العرش.. يرخى جسده تماما.. موكب مهيب.. صمت تام.. يتمايل العرش يمينا ويسارا كأنما يتراقص فرحا بصاحبه.. ملابسه ناصعة البياض.. يحاول أن يرى نهاية الموكب.. لا يستطيع لا يرى سوى البداية.. جميع الأقارب والأصدقاء.. ينظرون إليه من أسفل.. بينما ينظر إليهم من أعلى.. أصابه الغرور.. يطوفون به فى الشوارع والميادين.. يسائل نفسه: «أهذه مملكتى؟!.. يا لها من مملكة جميلة لا تستحق ملكا غيرى» بدأ يشعر بالقلق محدثا نفسه فى تعجب: «أين الجنود؟!.. هل من الممكن وجود مملكة بدون جنود؟!» يحاول تهدئة نفسه قائلا: «ربما لم يعودوا يريدون وجود جنود بينهم لفرط محبة أهل المملكة لى». يسرع الموكب.. لا يأبه لذلك.. يتأمل ما حوله.. إنه يعلم كل شارع من شوارع تلك المملكة.. يميل الموكب إلى أحد الشوارع الجانبية.. يندهش.. يصيبه الذعر.. إنه شارع المقابر.. يصرخ.. «كلا.. لا أريد الموت.. لست أنا الملك.. لا.. لا». يفيق على تهدئة زوجته له.. تمسح العرق من فوق جبهته.. تسأله متعجبة: «ماذا دهاك؟!.. ماذا أصابك؟!.. ماذا رأيت فى منامك؟!».. يحمد الله أنه لا يزال على قيد الحياة.. تخرج الكلمات من فمه بأسى «الحمد لله أننى لا أزال على قيد الحياة».. ينظر إليها بحنو قائلا «لقد كدت أفتقدك.. لقد كانوا يريدون أن يذهبوا بى إلى صاحب المُلك». ** لا يشعر أصحاب المُلك والجبروت فى الدنيا بضعف ملكهم إلا عند اقتراب عودة المُلك لصاحب المُلك. • ذو القرنين يسرع بسيارته متجاوزاً إشارة المرور.. لم يبال.. كان يفكر فيما هو أكثر من ذلك.. يتأمل صورة وضعها أمامه على تابلوه السيارة.. إنها صورته فى مرحلة الطفولة.. يسترجع تاريخ حياته.. يتذكر تلك الكلمة التى قالها له أحد زملائه: «إن ذا القرنين هو الإسكندر الأكبر» شعر أن الكلمة الأخيرة تتماشى مع ما فى نفسه من كبر.. لقد تعدى الطموح لديه حدوده.. قرر أن يمتلك الدنيا بأكملها.. المال.. السلطة.. النفوذ.. لقد عاش طفولة بائسة ولّدت بداخله حالة من التمرد حاول أن يعوض بها كل ما مضى من حرمان.. لذا قرر أن يحصل على كل شىء.. بطريق مشروع أو غير مشروع. يفيق على صوت أحد المارة يسبه لأنه كاد يصدمه بسبب سرعته الجنونية.. لم يبال.. فهو لم يبال بأى شىء فى حياته.. حتى القتل.. لم يكن يمثل شيئا لديه.. شعر أن مملكته تعدت مملكة ذى القرنين.. أحاطها بسياج من العلاقات والمصالح جعلها لا تتحطم.. حتى ظن أنها أقوى من سور ذى القرنين حول يأجوج ومأجوج. الشىء الوحيد الذى كان يعكر صفو حياته هو زوجته.. لقد كان دائم الشك فيها.. لم يستطع أن يحوطها بسياجه.. أخيراً.. قد وصل.. يهبط مسرعا.. يدلف إلى المنزل.. غرفة نومه.. شعر بالموت يهاجمه من هول الصدمة.. لقد تحطمت كل مملكته.. وجد زوجته فى أحضان عشيقها.. يتهاوى على الأرض.. أحس أنه حقا قد أصبح ذا القرنين. ** بين الطموح والغرور شعرة قطعها يفنى صاحبها. • مرفوع الراس الدخان الأزرق الكثيف يلف المكان.. يجلسان فى أحد جوانب الغرفة.. لاحظ علامات الضيق تظهر عليه.. ألقى ب«لى» النرجيلة جانبا سائلا إياه فى تعجب «ماذا بك؟!».. رمقه بنظرة غضب ولم يجبه.. فهم ما يرنو إليه صاحبه.. حاول تهدئته قائلا فى تنهد: «كف عن التفكير فيما حدث».. انفجر صاحبه قائلا فى غضب.. «كيف أنسى ما حدث؟!.. لقد قتلنا إنسانا للتو».. لم يبال.. أمسك ب«اللى».. يشد الأنفاس.. يشتعل الحجر.. أكمل وقد كاد يصيبه التشنج: «لقد مات ضميرك.. لم تعد إنسانا.. حقاً تستحق لقب «مسجل خطر».. قاطعه بشدة وهو يمسك بياقته قائلا وقد احمر وجهه من الغيظ: «كف عن ذلك.. لست من قتله.. هو من كان يتمنى الموت» أخذ ينظر إليه بتعجب.. يتنهد من جديد مكملا: «لا تتعجب.. اتتذكر ما قد حدث.. ألم أخيره بين أن يعطنى ما يملك أو أن اقتله؟! إلا أنه لم يعطنا.. ضحى بحياته.. من أجل 300 جنيه».. حاول صاحبه تصنع الهدوء وهو يرد عليه حتى يهدئ من ثورته: «لماذا لا تقول إنه كان يدافع عن كرامته».. هنا زادت ثورته فى وجهه قائلا: «انت غبى لا تفهم شيئاً.. تريد أن تصيبنى بالجنون.. أى كرامة هذه ب300 جنيه؟!.. هل هو حى حقا.. فى مثل غلاء المعيشة هذه ماذا تساوى 300 جنيه.. كيف يحفظ بها كرامته؟!».. وضع راحتيه على جبهته محاولا تهدئة نفسه.. مكملا قوله بأسى: «يا بنى لقد كان يحتضر.. قبل أن أقتله.. ينتظر أن أريحه من آلامه.. ألم تره لم يحاول أن يتوسل إلىّ لأتركه».. قاطعه قائلا فى تحد: «إذا كان ما حدث كما تقول.. فلِمَ قطعت رأسه وعلقتها على أحد الأعمدة؟!».. خرجت الكلمات من فمه متثاقلة وقد أغرورقت عيناه بالدمع «لأنه كان يحلم دائما بأن يكون مرفوع الراس». ** عندما تنخفض هامات الكرام مجبرة تكون الرحمة في سيف السياف. • قانونجى تتحرك أصابعه بين الأوتار.. نغمات الحزن لا تتوقف.. راقصة متمايلة.. بدلتها تجمع بين الأبيض والأسود والأحمر.. البدلة تفضح أكثر مما تخفى.. برقبتها قلادة رسم عليها صورة النسر.. الجالسون جميعهم من علية القوم.. أعينهم تكاد تلتهمها بشراهة.. لا تعلم أنها يجب أن تخفى جمالها.. إذا كان الناظرون يتملكهم الطمع. يربت صديقه على كتفه مشيرا بطرف عينه إلى أحد الجالسين سائلا عن كينونته: «من هذا؟!» ضحك قائلا فى سخرية: «هذا المترنح.. مسئول كبير».. يسترسل صديقه فى السؤال قائلا فى خبث: «أليس هذا من اقترح قانون...».. قاطعه قائلا «بلى.. واستطاع أن يجعله قانونه الخاص». انطلق المسئول وقد أصابه السكر محدثا الراقصة: «هذه البدلة ليست من مقامك.. استطيع أن أصنع لك بدلة خاصة.. سأبدل كل ألوانها.. فهذه الألوان قديمة» يصعد إلى المسرح.. يقترب منها.. ترتعد.. تلمح فى عينيه الشراهة.. ينتزع السلسلة من رقبتها.. ينظر إلى النسر بغضب.. يهددها قائلا: «إياك أن تلبسى سلسلة بها نسر مرة أخرى.. فلم يعد هناك نسور.. أنا من يصنع النسور». حاول الواقفون تهدئته وانزاله من على المسرح.. أعاد صديقه السؤال مرة أخرى: «ماذا يعمل ذلك المسئول بالضبط؟!».. اجابه بهدوء وهو يبتسم ساخرا «أنه عازف ولكن من نوع خاص».. يسكت برهة ثم يضحك مكملا فى خبث «قانونجى». ** يتفق المشرّع وعازف آلة القانون فى قدرتهما على التأثير الكبير فيمن حولهم رغم اختلاف طريقة التعبير عن الفكرة فالأول يعتمد على الكلمة والآخر يعتمد على النغمة.