دائما ما يُفترض أن الولاياتالمتحدة هي القوة الأولى على وجه البسيطة، والتي لا يضاهيها بلد آخر، وذلك بفضل تفوقها العسكري الهائل واقتصادها الذي يظل الأكبر في العالم رغم الأزمة الحالية. وهو في الحقيقة افتراض حقيقي إلى حد بعيد، سواء على الصعيد العسكري بتربع الولاياتالمتحدة على عرش العالم بموازنة دفاعية تمثل 50 في المئة من إجمالي ما ينفق على القوات المسلحة في أنحاء العالم، وتأتي الصين في المرتبة الثانية بعدها بفارق كبير إذ لا تتعدى نفقاتها العسكرية 6 في المئة، تليها فرنسا والمملكة المتحدة وروسيا التي لا يتجاوز ما تنفقه على قواتها المسلحة من إجمال الموازنة العالمية العسكرية 5.4 في المئة لكل منها. هذا بالإضافة إلى الانتشار الواسع لجيش الولاياتالمتحدة في العديد من مناطق العالم، وهيمنة قواتها البحرية على ثلاث محيطات رئيسية، هي الهادي والأطلسي والهندي. وحتى فيما يتعلق بالاقتصاد، ورغم كل المشاكل الناتجة عن الأزمة المالية وتداعياتها الخطيرة، تبقى الولاياتالمتحدة الأولى عالمياً بحجم اقتصاد يفوق ثلاث مرات اقتصادات الصين واليابان، وإن كان مساوياً لاقتصاد الاتحاد الأوروبي. لكن مع ذلك تظل هذه الأرقام سطحية ولا تعبر حقيقة عن قوة البلدان التي تعتمد عليها، بحيث يتعين النظر إلى إحصاءات أخرى لتقريب الصورة وتوضيح التفاصيل. ومن أهم التفاصيل الضرورية في هذا الخصوص عدد خريجي الجامعات، ونسبة وفيات الأطفال، ومتوسط العمر المتوقع. وفي هذا الإطار أيضاً، مازالت الولاياتالمتحدة تفاخر بتوفرها على أرقى الجامعات في العالم. ورغم كل ذلك فقد تراجعت الولاياتالمتحدة في العديد من المؤشرات الاجتماعية مقارنة بالدول الأوروبية واليابان، بل وحتى في بعض مجالات التكنولوجيا المتقدمة لم ترتق الولاياتالمتحدة إلى مصاف دول أخرى مثل كوريا التي فاقت سرعة الإنترنت فيها نظيرتها في أميركا، هذا بالإضافة إلى مجال النقل البري الذي يعتبر أهم مؤشر يدلل على تراجع أميركا مقارنة بالدول الآسيوية والأوروبية التي تمتلك شبكة متطورة من القطارات السريعة. فبينما كانت الولاياتالمتحدة تتباهى في السابق بأن لديها أكبر شبكة للسكك الحديدية في العالم، وشبكة طرق متطورة تصل جميع أركان البلاد، باتت اليوم تحتل مراتب متأخرة بعدما سبقتها دول أخرى أدخلت شبكات أحدث وأكثر تطوراً متجاوزة الولاياتالمتحدة، فقد أصبح المعيار الحالي لقياس تقدم شبكات الطرق والمواصلات العامة هو السكك الحديدية فائقة السرعة التي تتطلب تكنولوجيا خاصة وأموالا طائلة لم تحل دون استثمار الصين تريليون دولار على مدى العقد المقبل لتوسيع شبكة السكك الجديدة فائقة السرعة لديها. وإذا ما نجحت الصين في استكمال مخططاتها بحلول عام 2020 فستكون قد مدت 13 ألف كيلومتر من السكك الحديدية فائقة السرعة على طول البلاد وعرضها، بل هي تطمح إلى مد 29 ألف كيلومتر من السكك المتطورة ذات سرعة منخفضة لربط المدن الكبرى، بحيث ستقتصر السكك السريعة على القطارات التي تصل سرعتها إلى 350 كلم في الساعة بينما ستخصص السكك العادية لقطارات تتراوح سرعتها بين 200 و250 كلم في الساعة لتستخدم في الشحن ونقل المسافرين. وفي المقابل لا تتوفر الولاياتالمتحدة على سكك حديدية فائقة السرعة، بل تكتفي بتشغيل سكك متوسطة السرعة تربط بين واشنطن وبوسطن مروراً بنيويورك. وقد انتبه أوباما لهذا التقصير في تطوير شبكة متطورة للسكك الحديدية فخصص ثمانية مليارات دولار من الأموال الفدرالية لتحسين القطارات بما في ذلك تطوير السكك السريعة في كاليفورنيا وفلوريدا، لكن تلك المشاريع لن ترى النور إلا بعد عشر سنوات، هذا في الوقت الذي يجري فيه تطوير السكك السريعة في الصين واليابان على قدم وساق بحيث من المتوقع أن تدخل الخدمة في وقت أقرب من الموعد الذي حددته أميركا لبدء تشغيل قطاراتها السريعة. والأمر لا يقتصر على الصين واليابان، بل يمتد إلى بلدان أخرى تسعى إلى تأهيل شبكتها الحديدية مثل تايوان وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا وهولندا والمملكة المتحدة وكوريا الجنوبية وتركيا. هذه التطورات المهمة التي تشهدها شبكة السكك الحديدة في أكثر من بلد لابد أنها ستلفت انتباه السياسيين الأميركيين الذين يسافرون إلى هذه البلدان ويطلعون على مستوى الخدمة المقدمة وتفوقها على مثيلتها في الولاياتالمتحدة، ما سيحفزهم للحاق بالركب وتطوير الشبكة الأميركية. والمشكلة أن الاستثمار في هذا المجال يتطلب أموالا كبيرة يصعب تأمينها في مناخ الأزمة الاقتصادية الحالية، لاسيما وأن القطاع الخاص يبقى الجهة المعول عليه للاستثمار والتطوير الذي سيتحمل العبء الأكبر من الفاتورة. وبخلاف الصين التي تقوم فيها الحكومة بالإنفاق والاستثمار، من غير المرجح أن تخصص الحكومة الفدرالية الأميركية مبلغ مائة مليار دولار لمد السكك الحديدية، لكن مع ذلك يمكن رصد مبالغ أقل لترميم وإعادة تأهيل شبكة الطرق المتداعية، والأمر نفسه ينطبق على شبكة الكهرباء والجسور وغيرها من مقومات البنية التحتية التي تحتاج إلى أعمال صيانة مستعجلة، وهو ما يفرض على الولاياتالمتحدة إعادة ترتيب أولوياتها والاهتمام أكثر ببنيتها التحتية كي تحافظ على قدرتها التنافسية وتستعيد تفوقها على آسيا وأوروبا. ولعل ما يدعو للتفاؤل بالنسبة لأميركا قدرتها العالية على التأقلم والكفاءة الكبيرة للاقتصاد والشركات الخاصة في إنجاز المشاريع الناجحة. ومهما كانت المشاكل المحيطة بالعمل الحكومي، من بيروقراطية وجدالات لا تنتهي، تبقى الولاياتالمتحدة قادرة على بلوغ الأهداف التي تحددها لنفسها بسرعة قياسية. لكن مع ذلك لابد من خفض موازنة الدفاع الأميركية وتقليص النفقات الباهظة التي تتكبدها الخزينة العامة، فضلا عن الحاجة إلى الموازنة بينها وبين النفقات الاجتماعية الأخرى الضرورية لرفاه الأميركيين وازدهارهم، لاسيما وأن تغييراً عالمياً في ميزان القوى قادم لا محالة في ظل صعود الصين ودول أخرى ونشوء عالم متعدد الأقطاب لن تكون فيه أميركا سوى فاعل ضمن مجموعة من القوى الدولية في أوروبا وآسيا والأميركتين. * نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية