حجم الكارثة الانسانية في هايتي على اثر زلزال الثلاثاء الماضي دفعت البعض الى العودة للتفكير في الأسباب الواقعية لتعرض تلك الدولة الصغيرة لهذا الدمار الهائل جريدة "القبس " الكويتية كتبت تقول: كان من الممكن تجنب كثير من مآسي كارثة هايتي. ومن الممكن أن يغفر للمرء أيضا افتراضه أن بلدا كهذا قريب من خط صدع جغرافي وفي تقاطع طرق الأعاصير، ستكون لديه، ولابد، مجموعة من نظم المباني المتطورة المقاومة لهذه الكوارث الطبيعية العنيفة، لكن يبدو أن إجراءات السلامة لم تكن سمة مميزة أو حتى فكرة تخطر على البال ضمن منظومة الهندسة المعمارية للبلد، وذلك وفقا لصحيفة واشنطن تايمز الأميركية. فقد أجرى مدير إدارة التنمية المستدامة في منظمة الدول الأميركية في واشنطن، كليتوس سبرينغر، مؤخرا دراسة على معايير البناء في هايتي، وأكد بالدليل أن زلزالا بقوة درجتين فقط كان سيكفي لتسوية كثير من مباني البلد بالأرض. ومن السهل طبعا إلقاء اللوم على الفقر بسبب حجم الدمار المشاهد، لكن الفقر هو نتاج إدارة ضعيفة، فجزيرة هسبانيولا تشكل مختبرا مقارنا مفيدا في هذا الشأن، مثل شبه الجزيرة الكورية أو الألمانيتين إبان الحرب الباردة. كما أن هايتي جاءت في المرتبة 12 على مؤشر الدول الفاشلة بمجلة السياسة الخارجية عام 2009 واحتلت المرتبة العاشرة في مؤشر الشفافية الدولية لمدركات الفساد، ومنحت الدولة أكثر من ملياري دولار كمعونة تنمية خلال العقدين الماضيين، لكن هذه الثروة تم تحويل معظمها إلى تلميع وتأمين أنماط الحياة في الطبقة الحاكمة. والحياة في هايتي ينطبق عليها وصف السكرتير البرلماني لوزير الشؤون الخارجية الكندي دنيس باراديس، عندما قال بعد زيارته لهايتي عام 2001 «لو عامل الكنديون حيواناتهم بالطريقة التي تعامل بها السلطات الهايتية مواطنيها لكان مصيرهم السجن». لذا يجب على مهمة الإنقاذ الأميركية أن تبذل جهودا جبارة لضمان أن المال المنهمر على هايتي سيستخدم بترو وحصافة. ويجب أن تفرض الدول المتقدمة نوعا من الانضباط والحس السليم على بلد ظل أسيرا لجشع وفساد حكامه. وفي سياق متصل كتبت إيمي ويلينتز في جريدة"الاتحاد" الاماراتية تقول: منذ نشأتها، ادعى بعض المراقبين الأجانب أن عمر دولة هايتي سيكون قصيراً وأن مصيرها الزوال، لا محالة. ففي أعقاب ثورة الأرقاء عام 1791، التي أدت إلى الاستقلال عن فرنسا وتأسيس أول جمهورية سوداء في العالم عام 1804، كان بعض المراقبين مقتنعين بأن هذه الدولة- الجزيرة لن تصمد طويلا. ولم يكن "ذنب" الهايتيين المنتصرين حينها سوادهم فحسب، بل ربما ما هو أسوأ من ذلك، إذ بينما اعتنق بعضهم المسيحية، اتبعت الأغلبية الساحقة الشعائر الإفريقية التقليدية، أو ما يسمى "الفودو". في السنين الأخيرة، ركز المتشائمون والقائلون بقرب فناء هايتي على القيادة الفاسدة في البلاد، وعلى كوارثها البيئية، وفشلها في التعاطي مع العولمة. ومع ذلك، فإن البلد تابع مسيرته مترنحاً، ولكن بإصرار وتصميم. واليوم، وفي ظل الزلزال المدمر الذي ضرب البلاد يوم الثلاثاء الماضي، ينذر البعض مرة أخرى بالفناء الحتمي لهايتي، ولاسيما من قبل رجل الدين الأصولي "بات روبرتسون"، الذي اعتبر الزلزال دليلا على أن هايتي تلاحقها لعنة ما لأنها عقدت "صفقة مع الشيطان" للخروج من الحكم الفرنسي. والواقع أن روبرتسون متحدث معروف بصراحته، ولكنه ليس الشخص الوحيد الذي يفكر على هذا النحو. فمثلما كتب بول فارمر، الطبيب والناشط الإنساني الدولي، فإن حتى وسائل الإعلام، التي يُفترض أن تعرف أفضل عن تلك الجزيرة الكاريبية، ساعدت وتساعد على "إدامة وتكريس الأساطير حول هايتي والهايتيين". وبعبارة أخرى، إن روبرتسون يجهر بما يعتقده الكثيرون، دون أن يعرفوا السبب. وقد توصلتُ شخصياً بسبع رسائل على الأقل عبر البريد الإلكتروني من أصدقاء لا يساورني شك في حسن نيتهم استعملوا كلمة "اللعنة" في العنوان أو الرسالة. والواقع أنها ليست مفاجأة أن الهايتيين كثيراً ما يشعرون على هذا النحو أيضاً، وهم يشعرون به اليوم أكثر من أي وقت مضى، وذلك لأن الأمر يتعلق بغسيل للدماغ: حيث إنهم يسمعون منذ وقت طويل جداً أن لعنة ما تلاحقهم إلى درجة أنهم باتوا يصدقون ذلك. ثم إنه من الصعب أن تشعر بالفخر بإرثك التاريخي عندما تكون أسرتك مدفونة تحت أنقاض أحد البيوت العشوائية الفقيرة وقصرك الرئاسي، رمز "الإرث الحضاري" لهايتي، يبدو ككعكة عبث بها أكثر منه كمنارة يهتدي بنورها البلد والمضطهدون في كل مكان. غير أن المرء ليس مضطراً للعودة بذاكرته إلى الوراء كثيراً، إلى زمن كانت الأمور فيه أفضل. ولا غرو أن الهايتيين كثيراً ما يحنّون إلى أيام ما قبل العولمة، عندما لم يكن مزارعو هايتي مضطرين للتنافس مع المنتجات الرخيصة القادمة من الخارج، وعندما كانت المناطق الريفية تحقق الاكتفاء الذاتي تقريباً، وحينما لم يكن الناس يتضورون جوعاً في طول البلاد وعرضها. طبعاً أنا لا أقول إن هايتي كانت جنة في الأرض، ولكنني حين بدأتُ أزور هذا البلد في 1986، كان ثمة على الأقل اقتصاد محلي صغير، ولم يكن الفقر قد دفع الفلاحين إلى قطع كل أشجارهم، وكان ثمة حراك ثقافي نشط. ولكن في السنوات الأخيرة دفع تفشي الفقر المدقع أعداداً غفيرة من السكان في المناطق الريفية إلى الهجرة إلى العاصمة "بور أو برنس" بحثاً عن الوظائف، أو عن طريقة ما للخروج من محنهم الشخصية، أو حتى تطلعاً للحاق بقارب ذاهب إلى فلوريدا، أو جزر الباهاما، أو أي بصيص أمل آخر. يذكر أن هايتي تعتمد نظام الإدارة المركزية -إذ اختارت اتباع النموذج الفرنسي حيث كانت هناك العاصمة- المركز (باريس) والأقاليم (بقية البلاد). ولذلك يمكن القول إن "بور أو برنس" هي هايتي إلى حد كبير، ولهذا أيضاً تشير عناوين الصحف إلى دمار هايتي على رغم أن مناطق كبيرة من البلاد لم تتأثر كثيراً بالزلزال على ما يبدو. واليوم، تضم العاصمة نحو سدس سكان البلاد وربما أكثر. وقد تمددت في جميع الاتجاهات، فوق التلال والوهاد، ناشرة الخرسانة والإسفلت حيثما توسعت؛ حيث بنى سكان الأرياف الذين انتقلوا إلى المدينة أحياءً عشوائية فقيرة خرجت عن السيطرة من أجل إيواء القادمين الجدد، وهي أحياء باتت اليوم أثراً بعد عين. ومن المؤكد أن الهايتيين ينتظرهم الآن الكثير من الدروس والعبر ليتأملوها حين يستجمعون قواهم وينهضوا من هذه الكارثة الفظيعة ويفكروا مرة أخرى في أمور أكثر تجريداً من الطعام والماء والمأوى والدواء. فعندما يتحول بلدك إلى أنقاض، فإن ذلك يجعل الدماغ يركز؛ وعندما تتحول رموز الدولة -القصر الرئاسي، ووزارة العدل، والبرلمان، ومقر الشرطة- إلى ركام لمواد البناء المحطمة، فعليك أن تعيد تخيل تطلعاتك الوطنية. ولكن في هذه الأثناء، تستطيع الولاياتالمتحدة والبرازيل وكندا وكوبا وفنزويلا وتايوان وفرنسا ودول أخرى توفير البناء والمواد الطبية، وكذلك المستشارين الخبراء، من أجل بناء هايتي جديدة. حالياً، لا نستطيع أن نعرف بعد كم ممن كانوا سيشاركون في بناء هايتي لقوا حتفهم تحت ما كان قبيل بضعة أيام فقط "بور أو برنس". فكل بضع ساعات، أسمعُ مزيداً من الأخبار المحزنة حول من قضى نحبه، وحول من يُفترض أنهم في عداد الموتى. والأكيد أن ثمة عشرات الآلاف من الضحايا الذين خلفهم هذا الزلزال؛ ولكن لابد من التذكير بأن ثمة أيضاً الكثير من الناجين. والواقع أن المساعدات بدأت تصل وما زالت أخرى في الطريق؛ والناس ما زالوا ينتشلون الأحياء من تحت الأنقاض، ولكن هايتي ستعاود الظهور من جديد. ومثلما قال لي صديق أميركي من أصل هايتي يوم الأربعاء الماضي عبر "التويتر": "يجب ألا نفقد الأمل!". إن المأساة كبيرة والتهديدات للحياة متواصلة في وضع ما زالت فيه الأرض تتحرك والأمراض محتملة؛ ولكن قدرة هذا الشعب على الصمود والبقاء، وعلى مكابدة العيش في أسوأ الظروف ثبتت على مدى أكثر من قرنين من الزمن. فهؤلاء هم أحفاد الأشخاص الذين أطاحوا بنظام استعباد قوي ووحشي وغير إنساني؛ كما أن العديد ممن ما زالوا على قيد الحياة تربوا تحت حكم نظم قمعية انتفضوا ضدها في نهاية المطاف. وبالتالي، فمن المرجح جداً أن الهايتيين سينهضون من جديد. وبفضل الجهد الإنساني الكبير من أصدقائهم، سيعيدون إعمار البلاد؛ ولكن يجب أن تكون لدى العالم الإرادة ليهب لمساعدة هايتي والعمل مع الملايين من الهايتيين الناجين على إعادة إعمار هذا البلد الثمين. واليوم، ليس لدى العديد من الهايتيين، بمن فيهم الرئيس، مكان ليناموا فيه، ولكنهم سينامون ثم ينهضون مرة أخرى لمواجهة التحدي الكبير.