منذ فترة طويلة جعلت رسالتي السياسية أن تصبح مصر دولة طبيعية بمعني أن تعود كل الأمور في البلاد إلي أصولها الأولي كما تحدث في دول العالم المختلفة, أو في غالبيتها علي الأقل, أو حتي كما كانت تحدث في مصر قبل عقود حتي جاءتها البيروقراطية لكي تفرض عليها نظما وقوانين وقواعد معقدة وشاذة قامت كلها علي معادلة سقيمة قوامها أن الدولة, أو الحكومة, سوف تفعل كل شيء للمواطن من المهد إلي اللحد مقابل الولاء والطاعة. وتحت شعار الاشتراكية, والخصوصية, والتاريخ والحضارة الخاصة, جري اختراع نظام سياسي واقتصادي لا يصعب فقط فك طلاسمه ومن ثم يقوم عليه مجموعة من الكهنة تقع في أيديهم الحكمة, وإنما يؤدي في النهاية إلي انعدام الكفاءة, وضعف معدلات النمو, وتدهور مكانة البلاد بين الأمم. وقد كان جون ووتربيري عالم السياسة الأمريكي والدارس المتميز لمصر أول من تنبه فيما أظن إلي أن واحدا من الأسباب الرئيسية لتخلف البلدان العربية والإسلامية, وغياب الديمقراطية عنها أن الغالبية الساحقة من مواطنيها لا يدفعون الضرائب, وإذا دفعوا فلأن ذلك يعود إلي أسر الحكومة للقدر الأعظم من القوة العاملة في الجهاز الحكومي أو القطاع العام أو قوات الأمن الذين يتم استقطاع الضرائب منهم عند المنبع, وهي الضرائب التي عادة ما تكون محدودة ولا تشكل سوي جزء ضئيل من الموازنة العامة. نتيجة ذلك قامت معادلة سقيمة قوامها أن المواطن لا يدفع ضريبة تقريبا, ومن ثم فإنه ليس من حقه المطالبة بالمشاركة السياسية أو بالخدمات العامة أو حتي التساؤل عن مصير الريع الذي تحصل عليه الدولة من مصادر طبيعية أو خارجية مثل النفط أو قناة السويس أو المعونات الأجنبية لأن ذلك لم يبذل فيه المواطن جهدا أو عملا يذكر. مثل تلك الحالة كانت هي القاعدة في دول العالم المختلفة حتي القرن التاسع عشر, ومن بعدها تغيرت الأمور, وأصبحت الحالة الطبيعية للدول أن يكون للمواطن حق التساؤل والمشاركة إذا ما وفي بشرطين: أن يدفع الضرائب, وأن يقوم بخدمة العلم أو يقدم ما يسمي ضريبة الدم فداء للوطن. هذان الشرطان هما اللذان يجعلان المواطن مواطنا وليس ساكنا في البلاد, وإذا كانت الثورات المختلفة في تاريخ البشرية قد ركزت علي شعار لا ضرائب بدون تمثيل, فإن عكس الشعار أيضا صحيح وهو أنه لا تمثيل بدون ضرائب, وحتي في البلاد التي يجري فيها التمثيل بالفعل من الناحية القانونية والنظرية فإنه لا يصبح فاعلا وحقيقيا بدون قيام المواطن بدفع الضرائب التي تتناسب مع ما يحصل عليه من وجوده في مجتمع سياسي سواء كان ذلك أجرا أو سلعا أو عائدا أو أمنا. وهكذا فإن جزءا مهما من التحولات الكبيرة الجارية في مصر الآن هو أن أعدادا متزايدة من المصريين باتت تدفع الضرائب مع أنه بالنسبة لضرائب الدخل ارتفع عدد دافعي الضريبة من بضع مئات من الآلاف إلي بضعة ملايين مازالوا يمثلون أقلية صغيرة في المجتمع, فإن اتجاهها الصعودي السريع يشير إلي أننا نسير في الطريق الصحيح. وخلال الأعوام الست الماضيات ارتفعت الإيرادات الضريبية المصرية من67.1 مليار جنيه في عام2004/2003 إلي163.2 مليار جنيه في عام2009/2008. هذا الاتجاه يعكس نموا متصاعدا لا تخطئه عين نحو المواطنة, وقدرة أكبر وكفاءة أكثر من الجهاز الحكومي في تحصيل ضرائب متنوعة من المواطنين, وفي النهاية فإنها تعني أن المصريين الأحرار سوف يعتمدون علي أنفسهم, ولا يمدون يدهم لغيرهم من الدول, بكل ما يعنيه ذلك من استقلال سياسي, وعزة, واعتزاز بالذات. وما لا يقل أهمية عن ذلك, أن دافعي الضرائب أصبحوا قادرين علي سداد القدر الأكبر من الفاتورة الاجتماعية للدولة. فبالمقارنة بالضرائب التي تم تحصيلها, فإن الإنفاق الاجتماعي في الموازنة العامة للدولة أي الإنفاق الموجه إلي الفقراء ومحدودي الدخل ارتفع من86.2 مليار جنيه في العام المالي2004/2003 إلي166.9 مليار جنيه في2009/2008. وبغض النظر عما إذا كان ذلك يمثل مخالفة لما هو سائد في البرامج الفضائية حول الإهمال الحكومي للفقراء, أو طغيان الرأسمالية المتوحشة علي الإنفاق العام, فإن الحقيقة الواضحة هي أن المصريين وليس غيرهم هم الذين يقدمون القدر الأكبر من التمويل للفاتورة الاجتماعية. ولكن مثل هذا التحول لا يمكن فهمه إلا عندما يوضع في إطار أكبر وهو أن زيادة الإيرادات الضريبية لم يكن ممكنا بهذا القدر لولا التحولات التي جرت نحو اقتصاد السوق, والتقدم الذي جري للطبقة الوسطي وخروجها من أسر الحكومة, واستجابتها لنظام ضريبي معقول يمكن تطبيقه عمليا وتحصيلا. وفي الدول الطبيعية فإن مثل هذه التحولات تفتح الباب لمزيد من التنمية الاقتصادية والاجتماعية, والحاجة المتصاعدة لبنية أساسية أفضل وأوسع طاقة, وإنفاقا أكبر علي التنمية البشرية. وضمن هذا الإطار تأتي الضريبة العقارية لا لكي تكون فقط أداة لتحصيل موارد إضافية للدولة تنفقها علي تنمية المجتمع, وإنما هي في الإطار المصري وفي حد ذاتها واحدة من أدوات التنمية المصرية. وعلي سبيل المثال فإنه لا تنمية بدون معلومات, ولا توجد معلومات أكثر أهمية من معرفة وحصر الثروة العقارية في البلاد, وفحص حالتها, والتعرف علي قيمتها ومشاكلها. وبالتأكيد فإنه سوف يثار كثير من النقاش حول هذه الضريبة حتي بعد أن أقرتها المجالس التشريعية, وحصلت عليها سجالات كبري داخل الحزب الوطني الديمقراطي أدت في النهاية إلي رفع قيمة العقار الذي تستحق عليه الضريبة من300 ألف جنيه إلي نصف مليون جنيه بالإضافة إلي تعديلات أخري. مثل هذا التعديل أخرج ما يزيد علي95% من العقارات المصرية التي يملكها مصريون من أصحاب الدخول المحدودة, ومن ثم باتت الضريبة العقارية جزءا من عملية الإصلاح الاجتماعي وايجاد قنوات جديدة لتوزيع الثروة, فالضريبة العقارية بهذا المعني تحقق نفس ما كانت تطالب به كثرة من القوي السياسية أي الضريبة التصاعدية. والعملية هنا بالإضافة إلي فوائدها الاجتماعية, والمالية بالطبع, فإنها سوف تعزز عملية الإصلاح الاقتصادي, والتي بدورها توسع من نطاق الطبقة الوسطي التي ترفع الطلب علي الإصلاح السياسي مما يحقق نقلة نوعية في الحياة السياسية والاقتصادية المصرية. وإذا كانت الضريبة العقارية الجديدة سوف ينفق منها25% علي المحليات فإن ذلك سوف يعزز اللامركزية, والأهم أنه سوف يعطي عائدا مباشرا من الخدمات إلي صاحب العقار. ومن ناحيتي كنت أتمني أن تصل هذه النسبة إلي50% تنفق علي التعليم في نفس المنطقة التي يجري التحصيل فيها. ولا شك أن كل ذلك يحتاج إلي مزيد من شرح يبدأ من أن مصر قد عرفت الضرائب العقارية من قبل ومنذ عام1842 عندما فرضها الوالي محمد علي, ثم تم تعديلها أكثر من مرة حتي جاء آخرها في عهد الرئيس جمال عبد الناصر عام1961 حيث فرضت الضريبة بطريقة تصاعدية وبنسب تتراوح بين10% حتي40% طبقا للقيمة الإيجارية للحجرة. ومن ساعتها جرت مياه كثيرة تحت الجسور كانت نتيجتها ما صار معروفا' بأزمة الإسكان' حينما عجزت الدولة عن سد احتياجات المواطنين حتي من' المساكن الشعبية', كما عجزت عن الحصول علي' عوائد' من بيوت باتت تتحكم في إيراداتها وإيجاراتها ودخلت مصر إلي واحدة من تلك الحالات غير الطبيعية التي توجد فيها ضرائب عقارية ولكنها لا يتم تحصيلها لأن العقارات من ناحية غير معروفة, ولأنها لا تعطي عائدا حيث تقع خارج سوق التداول من الأصل. وهكذا تأتي الضريبة العقارية الجديدة كنتيجة وسبب في نفس الوقت, فهي ولا شك نتيجة التطور الاقتصادي الذي جري في البلاد من أول اتساع قاعدة الملكية العقارية مع انتشار' التمليك' منذ عقد السبعينيات في القرن الماضي, وحتي عمليات التحرير المتوالية وغير الكاملة حتي الآن والتي جرت لإيجارات المساكن بحيث باتت السوق العقارية ليست موجودة فقط, بل أنها تتوسع كل يوم كشهادة حية علي نمو واتساع الطبقة الوسطي في مصر. ولكن الضريبة العقارية أيضا سوف تكون سببا في تحرير شرائح من العقارات باتت نوعا من الاكتناز العقاري أو رأس المال الميت. فعندما يصبح علي المواطن دفع ضريبة علي واحد من الأصول العقارية بما لا يتناسب مع احتياجاته أو إمكانياته فإنه في هذه الحالة سيجد من الناحية الاقتصادية البحتة أنه من الأفضل له اللجوء إلي السوق لمبادلة عقاره بعقار آخر يتناسب مع قدراته وإمكانياته. وببساطة فإن ذلك سوف يعطي دفعة للسوق العقارية ويمدها بنشاط يليق بعدد يصل إلي30 مليون عقار فيجعلها ليس فقط أكثر حيوية, ولكنها في نفس الوقت أقل سعرا وأكثر حساسية لقرارات الاستثمار في المجال العقاري الذي يرتبط بعشرات من المجالات والصناعات الأخري. المسألة إذن ليست مجرد ضريبة, ولكن ما يهمنا رصد عملية أكبر لها علاقة بتحولات اقتصادية واجتماعية ترسي أسسا لتحولات سياسية. ومن يدرس التجارب التاريخية التي سبقتنا سوف يجد هذه التحولات لا تشكل فقط الخطوة الأولي نحو الديمقراطية, وإنما أيضا لتحقيق تلك النقلة النوعية التي ظللنا نبحث عنها في التاريخ المصري المعاصر وظلت تراوغنا ما بين نمو وانكماش, وتقدم وتراجع, وتردد وحسم. تعالوا لا نفلت الفرصة وننظر بجدية كاملة في التطورات الجارية علي أرض مصر فربما نجد فيها ما يستحق النقاش أكثر من التوريث وما علي شاكلته من قضايا مختلقة!. * نقلاً عن جريدة "الأهرام" المصرية