السياسة في واحدة من تعريفاتها هي العملية المنظمة لتغيير المجتمعات, فالأصل هو أن المجتمع مثله مثل كل الكائنات الحية يتغير كل يوم, فإضافة المواليد تغير بإضافة الأجيال وحذف الوفيات لا يرفع أجيالا بقدر ما يزيح أزمنة. والتطور التكنولوجي يعيد تشكيل الأسرة والفرد والجماعة بطرق مختلفة, فالمسافات تتغير مع وجود وتغير الطرق ووسائل المواصلات والاتصالات, والعلاقات تتعدد مع تغير محطات ومناطق التماس والتواصل والوصال بين مجتمعات شتي, وطرق الإنتاج والاستهلاك تغير من طبيعة الأسواق وأنواع المهن ومهارات الناس وتراكيب المدن وأحجام الطبقات والشرائح الاجتماعية. كل هذه العمليات, وهناك ما هو أكثر منها, تحدث كل يوم, بل كل لحظة أحيانا, ولابد لها من عملية تنظيم وتسجيل و توجيه من خلال السياسة التي تخرج القوانين والأحكام واللوائح, والتي تدير عملية التفاوض الاجتماعي والسياسي, حيث توزع الثروة والسلطة والقيم المتعددة. وفي العادة, فإن هذه العملية السياسية لتنظيم وتشكيل التغيير في المجتمع لا تسير بسرعة واحدة, فهي تحدث بسرعات مختلفة في مراحل تاريخية متنوعة, ويحدد ذلك في كثير منه كوابح اجتماعية وسياسية تعمل بمثابة أجهزة الفرامل في العربات التي تقلل سرعتها أو توقفها كلية. ومن هذه الكوابح توجد التقاليد والثقافة السياسية التي ترفض القفزات العظمي, كما توجد البيروقراطية التي تري في كل تغيير تجاوزا لأوضاع مستقرة, وفي بعض الأحيان فإن الخوف من غياب السياسة أو الفوضي قد يكون كابحا للتغيير, وهناك في كل الأحوال أصحاب المصالح في الأوضاع القائمة والذين يخشون فقدان المكانة أو الفوائد المادية والمعنوية. ولكن مهما كانت الكوابح فإن التغيير يحدث في كل الأحوال بطيئا أو سريعا, ولا يبقي شيء علي حاله كما هو الحال في مصر التي يبدو أنها تتعرض لثلاث عمليات من التغيير المتزامنة, أولاها أن مصر قد باتت أكثر تأثرا بالعالم عن ذي قبل, فعندما تصدر بأكثر من عشرة مليارات من الدولارات فإن ذلك يختلف عما كان عليه الحال عندما لم تتجاوز الصادرات المصرية ثلاثة مليارات, وعندما يزورها أكثر من ثمانية ملايين سائح معظمهم من صغار السن فإن الأحوال تختلف عما كان عليه الحال عندما لم يزد عدد السائحين علي مليون نسمة معظمهم من كبار السن,وعندما يكون لديك أكثر من خمسة ملايين مستخدم لشبكة الإنترنت, وأكثر من خمسة عشر مليونا يتحدثون في التليفونات المحمولة, وهكذا متغيرات كثيرة, فإن حال المجتمع لن يكون كما كان عليه الحال حتي من عقود قليلة. وثانيتها أن مصر نفسها قد تغيرت بسبل التحدي والاستجابة وبطرق التكيف المختلفة, فبات مواطنوها أطول عمرا باثني عشر عاما عما كان عليه الحال في مطلع الثمانينيات, وانتشر المصريون جغرافيا فوق أرض مصر علي سواحل وصحراوات لم يطرقوها من قبل, وبشكل ما فإن الجغرافيا المصرية تغيرت, والمصري نفسه تغير هو الآخر من حيث الصحة والعمر والتعليم والمعرفة والاتصال والحركة بين الريف والحضر, والشمال والجنوب, والصحراء والسواحل, وببساطة فقد صارت مصر مكونة من80 مليون نسمة أصغر سنا ومعرفة بأحوال الدنيا مما كان عليه الحال لدي أجيال سابقة, ومن ثم تغيرت قيم وتقاليد في العلاقات والتفاعلات لم يكن أحد يعرفها أو يقدرها من قبل. وثالثتها أن السياسة تدخلت كما هي العادة لتنظيم عملية التغيير هذه من خلال عمليتين متلازمتين: واحدة اقتصادية, والأخري سياسية. العملية الاقتصادية كان هدفها تنظيم الحركة نحو اقتصاد السوق, والعملية السياسية تأخذ البلاد نحو الديمقراطية, وفي كلتيهما كانت تجري عملية تطويع لعناصر التغيير التي تجري بالفعل علي أرض الواقع. ومن الطبيعي أنه في هذه العملية يكون للحزب الحاكم, والقيادة السياسية دور كبير في عملية التنظيم كما يقوم السائق بقيادة السيارة بالسرعة الملائمة حتي الوصول إلي المكان المعلوم الذي يحصل فيه الركاب علي احتياجاتهم المادية والمعنوية. وفي مصر فإن الحزب الوطني الديمقراطي والحكومة والرئيس مبارك يقومون بهذه المهمة, أما بقية أطراف السياسة مثل البيروقراطية والأحزاب والإعلام فإنهم يمثلون أجزاء أخري من العملية, فمنهم يكون الوقود, ومنهم تكون قوة الدفع. هذه العمليات الثلاث من التغيير التي تجري في مصر كما هو الحال في عمليات أخري تواجهها كوابح تحاول وقفها أو حتي دفعها إلي الخلف, وخلال العقود الثلاثة الماضية تعرضت مصر لفترات من الركود الشامل, كما حدث في النصف الثاني من الثمانينيات وخلال السنوات الأربع الأولي من القرن الحالي. وكانت هذه الكوابح مشكلة أحيانا من قوي أصولية كانت تريد أن تأخذ مصر إلي الخلف قرونا مضت, وفي أحيان أخري كانت مشكلة من بيروقراطية تري التغيير أسرع مما يجب طوال الوقت, وفي أحيان ثالثة كان الأمر راجعا للاعتقاد بأن التغيير يشكل خطيئة ومعصية في حد ذاته, وأن أفضل الأحوال هي تلك التي لا تنطوي إلا علي بقاء الحال علي ما هو عليه.وخلال العامين الماضيين جرت عملية تغيير متسارعة في مصر ظهرت فيها مؤشرات اقتصادية واضحة, كان منها معدل النمو والاحتياطي النقدي وسعر العملة, وإيجاد فرص العمل, وحتي دفع المصريين للضرائب, وانعكس ذلك سياسيا في عملية مراجعة الدستور, وتغيير القوانين, والانفجار الإعلامي الضخم, لكن كل ذلك قد بات مهددا بكوابح خطيرة ربما تعرض عملية التغيير لانتكاسة كبري تأخذها إلي عملية ركود طويلة, كما حدث في مرات سابقة. وربما كانت العقدة في الموضوع أن بعضا ممن هم في الدولة المصرية لم يعودوا يعلمون بمدي التغيير الذي أحدثوه في البنية الاقتصادية والسياسية في البلاد بحيث لم يعد ممكنا قبول المراوحة التي تعودوا عليها من قبل. وبصراحة فإن اتخاذ إجراءات تعسفية أو لا تكون مقنعة للرأي العام ضد بعض أطراف العملية السياسية في البلاد لم يعد من الأمور المقبولة, ليس فقط من قبل الرأي العام, بل من قبل السوق الاقتصادية التي تحتاج لاستمرار نموها وقودا من الشرعية والتنظيم, وباختصار السياسة, لذا فإن رفض المجلس الأعلي للصحافة لصدور بعض الصحف مثل صحيفة البديل برغم صدور كثير من الصحف والمجلات وحتي المحطات التليفزيونية, ومنها ما هو متاح له كل التجاوزات الممكنة, شكل خروجا علي زمن لم يعد فيه رفض إصدار الصحف من التقاليد المقبولة, وجاء تقديم مجموعات من الإخوان المسلمين إلي محاكمات عسكرية بعد الإفراج عنهم من قبل القضاء نوعا من استدعاء للستينيات وعقود لم يكن فيها للقانون سطوة, وأصبح هذا وذاك مقوضا لعملية تنظيم التغيير التي تواضع عليها المجتمع المصري حتي الآن, والتي سعت لها الحكومة وتبنتها وعملت علي نجاحها, فالمسألة لم تعد فجأة تنظيم عملية التغيير, وإنما صارت عملية للتحكم والسيطرة علي التغيير بوسائل عصور وأزمان سابقة, وهي لم تكن ناجحة علي أي الأحوال. لقد بات مطروحا علي الحزب الوطني الديمقراطي وحكومته مجموعة من مسئوليات التغيير إزاء المواطنين المصريين أولا, وأمام العالم الخارجي ثانيا لم يعد ممكنا تجاهلهما. وأولي المسئوليات هي عما إذا كنا سوف نستمر في تأكيد سيادة القانون الطبيعي, أم أن مصر سوف تظل من الدول القابلة للقوانين الاستثنائية, فإذا أخذنا بالخيار الأول كنا كمن يسير قدما علي طريق التغيير بحيث نستوعب العصر الجديد, أما إذا أخذنا بالخيار الثاني فإننا سوف نكون قد قبلنا بخيار للجمود والبقاء في الحقيقة ضمن الدول المتخلفة التي تسودها التقاليد الاستثنائية! ولعل ذلك هو فصل المقال, فقد كانت كل الجهود المبذولة خلال عملية الإصلاح الراهنة أن تتخلص مصر من حالتها الاستثنائية ذات الأوضاع المقلوبة بحيث تصبح دولة طبيعية تحكم بقانون طبيعي وغير استثنائي, وتتحرك سوقها الاقتصادية والسياسية تبعا لقواعد العرض والطلب, وليس تبعا لقواعد تحكمية من قبل جماعة من الموظفين الذين لن يفوضهم أحد للقيام بهذه المهمة. وبالفعل كانت عملية التعديلات الدستورية في جزء منها علي الأقل تخلصا من القرارات التحكمية والأساليب الاستثنائية عندما تم التخلص من المواد الخاصة بالفلسفة الاشتراكية, وبعد حدوث ذلك سوف يصعب تماما أن تعود الدولة إلي لعب الدور الذي لعبته خلال الستينيات مرة أخري, سواء كان ذلك من خلال التدخل من أجل السيطرة في السوق الاقتصادية, أو استخدام أساليب قهرية لاستبعاد خصوم سياسيين. وعلي أي الأحوال فإن العالم يبقي مراقبا لأحوالنا ومدي تطابقها مع العالم المعاصر الذي قلنا إننا نسعي للاقتراب منه, وحاولنا بالفعل أن نكون جزءا منه بإجراءات شتي, وببساطة فإن الحالة المصرية هي حالة عضوية من أولها إلي آخرها, ومع كل التحام مع العالم فإن درجة التأثير والاعتماد المتبادل تزيد من الحساسية الفائقة للإجراءات الاستثنائية, أو التي لا تستند إلي صحيح القانون الطبيعي, فهل يمكن مراجعة أحوالنا الأخيرة وقراراتنا التي يبدو أنها سوف تفتح الأبواب للنكوص والتراجع عن المكانة التي حققناها خلال الفترة القصيرة الماضية بحيث نضع في مكانها إحباطا ويأسا من التغيير المنظم لكي يحل محله تغييرا لايعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالي؟!