وقفت إيران فجأة في نفس الموقف الذي وقفته كثير من دول العالم النامي, خاصة الدول العربية والشرق أوسطية في العموم, حينما ارتفع في المظاهرات الأخيرة هناك ذلك الشعار لا غزة ولا لبنان... نستشهد من أجل إيران. تفاصيل ما حدث وأصول المظاهرات والسخط المتولد بين الجماهير الإيرانية منذ الانتخابات الرئاسية ليس هو موضوعنا, ولكن القضية هي ما طرحه الشعار السابق, ليس لأنه مطروح علينا في كل وقت, بل أنه يكاد يكون مطروحا علي كل العالم الثالث. فقد فرضت المشاكل والصعوبات التي تواجه توزيع الثروة في العديد من دول العالم النامي, خصوصا تلك الدول التي فشلت في إدارة مواردها المادية والبشرية وتوجيهها نحو تحقيق تنمية حقيقية تعود بالنفع علي المواطنين, السؤال حول الأولوية لمن: للداخل بما يقتضيه ذلك من توجيه موارد الدولة وتركيزها في هدف تحقيق التنمية, أم للخارج بما يتضمنه من استنزاف موارد الدولة في إقامة تحالفات وعلاقات مع دول ومنظمات مختلفة علي حساب تحقيق تنمية حقيقية في الداخل. وبسبب تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية في العديد من هذه الدول بما يشمله ذلك من ارتفاع معدل البطالة والتضخم وتزايد معدل الفقر, بدأت المشاعر ا لقطرية تطفو علي السطح وأصبحت تزاحم بشدة الاتجاه الساعي إلي مد النفوذ خارج حدود الدولة والانشغال بأزمات خارجية يعتقد أنها تمس مصالح الدولة وأمنها القومي. كما تسربت مشاعر الغيرة القومية داخل عدد من هذه الدول لترفع درجة الإحساس بالقطرية التي تتنامي معها توجهات تكرس الاهتمام بالداخل ومعالجة أزماته قبل التطرق إلي قضايا الخارج. القضية هكذا ليست جديدة بالمرة, ولعلنا عرفناها هنا في مصر قبل آخرين, وظهرت تحت شعارات مصر أولا, والأردن أولا, لبنان أولا, والكويت أولا, وهكذا في العديد من دول المنطقة. وأحيانا تمت المحاولة الفكرية لفك التناقض بين الجبهتين علي أساس أن الخارج يمكنه أن يكون سندا للداخل في تكوين الثروة, وبناء مصادر القوة; ولكن الأمر في الواقع لم يكن أبدا كذلك حينما كانت المحصلة دائما للخارج استنزافا للموارد القومية حتي ولو كان أحيانا وفي زمن الحرب الباردة مصدرا من مصادر الدخل والعزة والمكانة. ولكن الحرب الباردة انتهت, ولم يعد من السهولة اللعب علي حبال دولية متعددة, وعلي أية حال فقد كان الظن واردا أن إيران يمكنها أن تنجو من هذه المعادلة الصعبة بحكم مواردها الهائلة. وتعد إيران من ضمن الدول التي تمتلك ثروات كبيرة من النفط والغاز, حيث تمتلك10% من الاحتياطي العالمي للنفط وتعتبر رابع أكبر مصدر للنفط في العالم, فيما تمتلك ثاني أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي بمعدل يتجاوز900 تريليون قدم مكعب بنسبة15.5% من إجمالي الاحتياطي العالمي من الغاز, ومع ذلك تواجه أزمة اقتصادية حادة تتمثل في ارتفاع معدل التضخم إلي حوالي25.6%, وتزايد معدل البطالة إلي12.5%, وارتفاع من يعيشون تحت خط الفقر إلي14 مليون مواطن( أي حوالي19% من إجمالي عدد السكان البالغ73 مليون نسمة تقريبا), فضلا عن وصول نسبة عجز الميزان التجاري الإيراني إلي18% من إجمالي الناتج المحلي خلال عام2007 دون حساب قيمة الصادرات النفطية. وعلي خلفية ذلك, بدأت دعوة إيران أولا في الظهور علي الساحة, بالتأكيد علي ضرورة استخدام موارد الدولة لخدمة اقتصادها الوطني ورفع مستوي معيشة مواطنيها, بالتزامن مع تزايد الحديث حول إنفاق جزء كبير من موارد الدولة علي أدوار خارجية, ومن هنا بدأ الخلاف حول القضايا التي يجب أن تحظي بالأولوية: هل التمدد بالنفوذ الإيراني خارجيا والصدام مع الدول الإقليمية المجاورة ومع القوي الدولية بسبب ما كان يسمي بقضية تصدير الثورة الإسلامية, أم بناء إيران من الداخل دولة قوية قادرة علي أن تكون نموذجا آخر من نماذج الاقتصاديات الحديثة والنمور الآسيوية؟ وإذا كان الرئيس السابق محمد خاتمي قد كسب جولة في هذا الإطار من خلال نجاحه في تقليص حدة التوتر مع دول الجوار وإعطاء الأولوية للبناء الداخلي وبالذات لقضيتي التنمية الاقتصادية والإصلاح السياسي, فإن عهد الرئيس أحمدي نجاد عاد ليفتح الباب علي مصراعيه أمام توترات مع دول الجوار وهي التوترات التي تفاقمت حدتها في الأشهر الأخيرة وتجلت في تداعيات الحرب الإسرائيلية علي قطاع غزة التي أعادت فرض طرح السؤال مجددا: الأولوية لمن؟, للبناء الداخلي أم لتمديد النفوذ الخارجي؟. فقد روج المتشددون لمقولة أن أزمة غزة أضفت مزيدا من القوة علي مكانة إيران باعتبارها أحد أهم القوي الإقليمية الداعمة لحركات المقاومة في المنطقة, مما يساهم في إضفاء وجاهة خاصة علي مشروع الشرق الأوسط الإسلامي الذي تروج له إيران في مواجهة المشاريع الخارجية خصوصا مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي حاولت الإدارة الأمريكية السابقة تنفيذه في المنطقة. كما أنكر هؤلاء وجود أزمات داخلية في إيران مثل الأزمة الاقتصادية والأزمة الاجتماعية ممثلة في حدوث قلاقل داخل مناطق الأقليات, وأرجعتها إلي مؤامرات خارجية تنفذها الولاياتالمتحدة لإثارة القلاقل في إيران تمهيدا للقضاء علي النظام الإسلامي. ولم يكن هذا القول قادما من إيران وحدها بل كان شائعا بين كثيرين من المفكرين والمثقفين في المنطقة الذين راحوا يباهون بإلحاح بالدور الإقليمي لإيران الذي بات كاشفا لدور دول أخري فقدت أدوارها الإقليمية' التاريخية'. لكن فات علي هؤلاء جميعا أنه حتي لو كان ذلك صحيحا فإنه ليس مبررا لإهمال هموم الداخل في مقابل التطلع إلي دور إقليمي بارز, فاستنزاف أموال الدولة في سبيل إقامة تحالفات قوية في الخارج علي حساب تيسير المعيشة علي الفقراء في دولة وصل عدد الفقراء فيها إلي14 مليون شخص, ربما يكون أشد خطرا من المساعي الخارجية لإسقاط النظام, لاسيما أن معظم الثورات التي شهدتها بلدان العالم المختلفة قامت في الأساس لأهداف اقتصادية تتعلق باستشراء الفقر والحرمان في قطاعات واسعة, وهو ما يحدث الآن في إيران. ولمن لا يعلم فإن إيران دولة متعددة القوميات والمذاهب ومتسعة جغرافيا حتي تتمايز المناطق والأقاليم بالثروة والقدرة والولاء للمركز والعاصمة. بعض هذه الاعتبارات استندت إليها القوي المعارضة لسياسة الرئيس أحمدي نجاد والمتشددين بصفة عامة. فهذه القوي ترفع شعار' إيران أولا', وتعتقد أن بناء إيران داخليا يكتسب الأولوية في الوقت الراهن, وهي وإن كانت لا ترفض التحالف مع قوي خارجية, لكنها تؤكد أهمية ألا يكون هذا التحالف علي حساب التزامات داخلية للحكومة. ويبدو أن ذلك هو السبب الذي دفع متظاهرين من مناطق الأحواز الإيرانية إلي تنظيم مظاهرات عديدة للتنديد بالتدخل الإيراني في الشئون الداخلية الفلسطينية متهمين إيران بالتسبب في أزمة غزة, واستنزاف أموال الدولة لمصالح خارجية علي حساب الشعب الإيراني. كذلك تبنت صحيفة كاركوزاران( كوادر البناء) المحسوبة علي المعتدلين, الموقف نفسه, حيث نشرت في ديسمبر2008 مقالا وصفت فيه بعض أعضاء حكومة حماس ب الإرهابيين, وهو ما دفع جهاز الرقابة علي الصحف إلي إصدار قرار بإغلاق الصحيفة. وزادت بعض القوي الإيرانية علي ذلك بتأكيدها أن إيران ليس لها ناقة ولا جمل في الحرب, وأن تدخلها في الأزمة كان لصرف الانتباه عن أزماتها الداخلية, ولم يعد عليها إلا بتبديد أموال الشعب الذي يعاني من أزمات اقتصادية طاحنة. كما تصاعدت حدة الانتقادات للحكومة الإيرانية بعد ظهور تقارير تفيد تعهد الحكومة بإعادة بناء العديد من المناطق في قطاع غزة ولبنان في إطار دعم إيران المتواصل للجماعات والمنظمات المتحالفة معها. وأشارت هذه التقارير إلي أن الحكومة أنفقت ما بين8 إلي10 مليارات دولار لصالح حزب الله اللبناني في إطار إعادة إعمار الجنوب والضاحية الجنوبية بعد حرب لبنان2006. فيما ذكرت بعض قوي المعارضة أن هذه المساعدات وصلت إلي12 مليار دولار. كما وجه نواب في مجلس الشوري انتقادات عديدة للرئيس وحكومته بسبب عجزها عن طرح حلول للأزمة الاقتصادية الخانقة, وتساءلوا عن مصير أكثر من110 مليا رات دولار من عائدات النفط في صندوق الاحتياطي لم تجب بشأنها الحكومة ولم تبلغ مجلس الشوري عن مصادر إنفاقها, وهو ما تزامن مع تأكيدات أطلقها البعض بأن النظام أنفق هذه العائدات علي تقوية تحالفاته مع أطراف إقليميين. لماذا نطرح الموضوع الآن, وما هي مناسبته؟ متابعة الحالة الإيرانية فقط ليست هي الغرض, ولكنها إشارة إلي قضية ملحة لا تفتأ أن تطرح نفسها علينا في مصر وتدفعنا أحيانا دفعا نحو فقدان التركيز الوطني علي قضايانا الملحة, وكانت آخر مشاهدها إبان أزمة غزة الأخيرة. ولكن للأمر جانب آخر لإخوتنا في فلسطين حيث توالت صيحة الدولة أيا كان اسمها أولا في دول عربية كثيرة, والآن وصل الأمر إلي إيران التي جعلت من القضية الفلسطينية مركزا للحركة الخارجية والنفوذ الإقليمي والسيطرة الداخلية. وقد كانت الفكرة من إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية هي أن تكون فلسطين أولا, ولكن مع الزمن بدا أن فلسطين ربما لا تكون من بين أولويات كثير من أبنائها بل أنهم علي استعداد للانقسام السكاني والجغرافي حتي نهاية الزمان حتي باتت قضية المصالحة بين الفلسطينيين أكثر أهمية من قضية التحرير. والآن هل يوجد في فلسطين, وبالذات في غزة, من استمع إلي الرسالة الإيرانية؟ * الاهرام