في المتن الشمالي يختلط الحابل بالنابل. لعبة الشطرنج ذات الخطوات المحسوبة بدقة في عملية تركيب اللوائح تماهت على ما يبدو مع حفلة زجل لشعارات تستقبلك منذ أن تعبر المدخل الجنوبي للساحل المتني، نهر الموت. «لا للشعار نعم للإنقاذ» عبارة تحملها لافتة عملاقة للنائب ميشال المر على خلفية جبلية- ليس واضحاً إذا كانت ترمز إلى جبل صنين أو مشروع الزعرور- تليها أخرى بعنوان «مواطن في خدمة مواطن - سركيس سركيس» صاحبها مرشح تبدو عليه ملامح رجل الأعمال الثري أكثر منه السياسي صاحب البرنامج، فيما تتصدر عبارة «متنكم أخضر» إعلاناً للمرشح أميل كنعان، وإلى جانبه دعوة من النائب إبراهيم كنعان ل«تمتين الصوت». وبين ذلك وذاك، سيارة تحمل شعاراً يلخص مبادئ انتخابية تفيض «بالمصداقية»: «قباض منّو انتخب ضدّو»، وفوقها لافتة من العيار الثقيل اختلطت فيها اللغتان الفرنسية بالانكليزية في جملة واحدة تذكّّر الناخب بالمعجزة اللبنانية «كوني جميلة وانتخبي» (soit belle et vote) تتلوها علينا فتاة لعلها تثير المتنيين لانتخابها... رغم أنها ليست مرشحة. حفلة الزجل تلك، تختصر إلى حد كبير مضمون التحالفات في المتن، المنطقة التي ينظر إليها تاريخياً على أنها محور الحركة السياسية في لبنان، خاصة أنها خرّجت ثلاث رؤساء للجمهورية، أولهم قضى اغتيالاً (بشير الجميل)، وثانيهم انتهى به الأمر مرشحاً خاسراً أمام منافس مغمور (أمين الجميل)، والثالث أنهى ولايته الممدد لها رئيساً ولا رئيس (إميل لحود). عوامل عديدة تتداخل بشكل معقد في المعادلة الانتخابية المتنية، قد يحتاج حلها إلى جهابذة في علم الرياضيات: الأحزاب، العائلات، الساحل، الجبل، الخدمات... ومن خلالها تحوّل خصوم الأمس، إلى حلفاء اليوم، فكانت النتيجة لائحتين أساسيتين تتواجه فيها المعارضة والموالاة بقيادة «دولة الرئيس» السابق ميشال عون، ونظيره في اللقب والاسم الأول، ميشال المر. لا يمكن لأحد أن يستوعب كيف انقلب كل شيء رأساً على عقب، لكن التبرير الذي يفتقد إلى المنطق يبدو حاضراً في كل الأوقات. بداية مع لائحة «المعارضة» التي تعتبر خليطا هجينا يستغربه كثيرون بين كتلة العماد ميشال عون وبين مرشح الحزب السوري القومي الاجتماعي غسان الأشقر. ما كان قبل أربعة أعوام تحت الطاولة أصبح اليوم علنياً، لاسيما بعد انضواء الفريقين في مخيم المعارضة لإسقاط حكومة فؤاد السنيورة الأولى. وبعدما كان العونيون يردون على خصومهم بعبارتهم الشهيرة «لا يمكننا أن نقول للقومي ألا يصوّت لنا» أصبحت معركة الأشقر جزءً من معركة عون في محاولات دؤوبة لإنجاح اللائحة من دون اختراقات، مع العلم أن التحالف مع القوميين يرفد لائحة التيار بما بين خمسة وسبعة آلاف صوت. ولعل الأطرف في هذا المزيج «الهجين»، كان دخول الفنان غسان الرحباني على خط المواجهة الانتخابية المتنية. لا حيثيات سياسية لانضمام الرحباني إلى لائحة التيار الوطني الحر سوى أنّ «العماد عون ينتمي إلى وطن الرحابنة»!. علاوة على ذلك، يؤكد غسان الرحباني، في إحدى مقابلاته التلفزيونية، إنّ لا مشكلة لديه مع «القوات اللبنانية»، لكنه يعود ويوضح أن المقصود بالقوات هي تلك التي لحّن وأنشد لها إلى جانب والده الياس، قبل أن يتولى العماد عون رئاسة الحكومة الانتقالية مصحوباً بنفحة عنفوان من الشاعر سعيد عقل. عند المقلب الآخر، «تحالف خارج الطبيعة» ( وهو التعبير الذي استخدمه الوزير نسيب لحود لوصف التحالف بين عون والمر في الانتخابات الماضية)، بين قوى 14 آذار من جهة، وبين من كان في الماضي المسؤول الأول عن «قمع التيار السيادي» و«مصادرة قرار المتن» من جهة ثانية. أمّا أبرز نتائج هذا التحالف فكانت استبعاد لحود عن لائحة المعارضة، لتتهاوى بذلك آخر حجارة تحالف قرنة شهوان. وحده حزب الطاشناق خرج منتصراً بأقل جهد ممكن... شكراً قَطَر. غير أن التجديد للنائب هاغوب بقرادونيان بالتزكية لم يغيّب أرمن المتن عن المعركة، بعدما تعهد الطاشناق بالتصويت للمر ولسبعة مرشحين من لائحة عون، لكن العديد من المتنيين يرون أن لترشح الرحباني تأثيراً خاصاً على الأرمن.... وفي هذا الإطار يرى المتفائلون في تيار عون أنّ الأرمن، الذين تعتبر منطقتي برج حمود وأنطلياس نقطة تموضعهم الرئيسية، يميلون للتصويت إلى الرحباني بنسبة تقارب 80 في المئة، ولكن ربما يكون قد غاب عن بال هؤلاء أنّ هذه الأصوات قد تؤخذ من حصة الأرثوذكسي الثاني على اللائحة، النائب غسان مخيبر، خصوصاً أن ما يميّز الأرمن هو التزامهم الصارم برأي قيادتهم، مع العلم أنّ الرحباني يبقى الحلقة الأضعف ارثوذكسياً في لائحة عون. ورغم هذا الالتزام تجاه الحلفاء التاريخيين، فإنّ تبني بعض أوساط المر الخطاب العنصري الذي قطع به الرئيس السابق أمين الجميل شعرة معاوية بين الكتائب وبين الطاشناق، ربما يثير عصبية أرمنية قد لا تصب في صالح المر نفسه. ولعل التسجيل الصوتي الذي بثه التلفزيون البرتقالي لأحد «كتائبيي المر» يعكس إلى حد كبير ظاهرة «الأرمنوفوبيا» المتفشية لدى بعض اللبنانيين الجدد من قوى المولاة. هذا الأمر ينسحب أيضاً على مجموعات ناخبة أخرى، لاسيما المجنسين، الذين طالما نعتهم شوفينيو المتن بأنهم أدوات المر الانتخابية خلال حقبة الهيمنة السورية، قبل أن يصنفوهم في خانة «النوَر» التابعين لعون، حيث يرى البعض، من الموالاة والمعارضة المتنيتين على حد سواء، أنّ معظم هؤلاء «سوريون يسيّرون بتعليمات من المخابرات السورية». وتؤكد أوساط ماكينة عون الانتخابية أنّ غالبية المجنسين من المسيحيين سيصوّتون للمعارضة، مع العلم أنّ عدد ناخبيهم يبلغ 17 ألفاً، يتوزعون بين 90 في المئة مسيحيين و10 في المئة مسلمين. أمّا الأقلية الشيعية في المتن (4 آلاف صوت) فيبدو أمرها محسوماً لصالح لائحة عون. «خارج القيد الطائفي»، يمر الاستحقاق الانتخابي أمام الشيوعيين، الذين شكل المتن إحدى أبرز المناطق لانطلاقتهم تاريخياً، من دون أن يكون لهم مرشح، لكنهم يؤكدون، رغم ذلك، أنهم لن يكونوا غائبين عن المعركة. ويوضح مسؤول منطقية المتن في الحزب الشيوعي ريمون كلاس أنّ قرار عدم الترشيح اتخذ بعد دراسة دقيقة استناداً إلى حيثيات عديدة على المستويين المحلي والوطني العام، مع العلم أن كثيرين كانوا يفضلون أن يخوض الشيوعيون المعركة بمناضل مخضرم هو موريس نهرا، خاصة أن القوة التجييرية للحزب تقارب 3500 صوت. وفيما يتجنب كلاس الدخول في التفاصيل، بانتظار ما ستخرج به اجتماعات الحزب في المتن من قرارات تكتيكية، يوضح أن الوجهة العامة هي السعي لإسقاط النائب ميشال المر ومرشحي حزب الكتائب. لا يؤمن المتنيون كثيراً باستطلاعات الرأي، ونسبة كبيرة منهم تميل إلى لوائح خاصة، وفقاً لاعتبارات عائلية ومناطقية وعاطفية وخدماتية، ولهذا فإنّه يصعب إلى حد كبير التكهن بنتيجة واضحة المعالم، بانتظار انتهاء عمليات الفرز، من هنا فإنّ توقعاتهم تأتي حذرة، رغم إقرار الغالبية بأرجحية المعارضة، وفي أفضل الأحوال، بالنسبة لمؤيدي المر، المناصفة بين الفريقين. وتواجه لائحتا عون والمر العديد من نقاط الضعف. وفي ما يتعلق بلائحة عون فإنّ إدراج اسم النائب الأشقر يثير استياءً عارماً من قبل «بشيريي التيار» وهذا ما يسعى الكتائبيون والقواتيون إلى استغلاله عبر استنفار العصبية المسيحية ضد «العدو التاريخي» في المتن، إلى جانب الضرب على وتر وثيقة التفاهم بين التيار وحزب الله، وهذا ما تعبر عنه لافتة تحمل تحذيراً من تغيّر لون لبنان في حال نجح مشروع عون الذي يحمل عنوان «الجمهورية الثالثة»: علم لبناني أصفر أرزته برتقالية. أمّا لائحة المر الجميل فتواجه بدورها مشكلة في تمثيل بعض العائلات، من هنا فإنّ تركيبة اللائحة جاءت لتفقدها القاعدة الشعبية للمرشح وديع الحاج (بسكنتا) وعائلة أبو جودة (الساحل). علاوة على ذلك، فإنّ خروج النائب السابق نسيب لحود من السباق الانتخابي، بعدما أصبح ضحية تحالف المر - الجميل، قد يشكل معضلة أخرى تواجه لائحة الموالاة. وفيما آثر المقربون من لحود عدم إبداء موقف واضح من استبعادهم، فإنّ بعض مناصري لائحة المر يبدون تخوفاً من «عملية تصويت انتقامية»، مع العلم أن الانتخابات الحالية هي الأولى التي لا يترشح فيها أحداً من عائلة لحود في المتن منذ الاستقلال. ما يلفت النظر أخيراً، وأنت تغادر المتن أن صورة ضخمة للنائب جورج عدوان تستوقفك فوق جسر نهر الموت... «هل جرى توسيع الحدود الإدارية لقضاء الشوف بقرار من الوزير بارود؟»، تسأل نفسك، لكن سرعان ما تستذكر من أين بدأت: «أهلاً بكم في حفلة الزجل المتنية!».