لماذا رفضت مصر التوقيع على الإطار القانوني لمبادرة حوض النيل؟ وهل سيؤدي موقفها هذا إلى نشوب أزمة مع دول الحوض؟ وما خيارات مصر واستراتيجيتها للتعامل مع أي أزمة تخص حصولها على مياه النيل؟! تساؤلات طرحها مراسل جريدة القبس بالقاهرة . المفاوضات الأخيرة بين دول حوض النيل وعددها عشر (مصر، السودان، كينيا، أثيوبيا، أوغندا، اريتريا، تنزانيا، رواندا، بورندى، والكونغو الديموقراطية)، التي عقدت في عاصمة الكونغو (كينشاسا)، شهدت أخطر أزمة في تاريخ العلاقة المشتركة بين هذه الدول، بعد ان رفضت مصر التوقيع على الاتفاقية الاطارية لدول حوض النيل، واشترطت النص صراحة على عدم المساس بحصة مصر من مياه النيل وفقاً لحقوقها التاريخية، وضرورة الإخطار المسبق من جانب أي دولة حول أي مشروعات تنوي القيام بها على مسار النيل، بحيث لا يتم تنفيذ أي من هذه المشروعات يمكن ان تضر بالدول الاخرى المشاركة في الاستفادة من مياه النهر. كما اشترطت مصر تعديل طريقة اقرار الاتفاقية بأن تكون بالاجماع، وانهاء ضرورة موافقة دول المصب حتى لا يتم تقسيم دول الحوض ما بين دول اقلية، هي: دول المصب (مصر والسودان) ودول المنبع (بقية الدول). واقتصر التنسيق في اجتماع كينشاسا على المواقف المصرية والسودانية فقط، حيث انسحب ممثل السودان بعد أن رفض مناقشة بند الأمن المائي بعد احالته إلى رؤساء دول حوض النيل، فيما تجمع دول المصب في اتخاذ موقف مشترك بضرورة مناقشة بند الأمن المائي لتعديل حصص الدول في مياه النيل. ومع تعقد المناقشات وعدم امكان التوصل إلى حل، رفضت مصر توقيع اتفاقية حوض النيل الجديدة، وبالتالي تم ارجاء حل تلك المشاكل إلى الاجتماع التالي المقر في يوليو المقبل في القاهرة، مع تنشيط الاتصالات السياسية على مختلف المستويات للبحث عن حلول تلقى اجماع وموافقة دول حوض النيل. كي لا تنفجر الازمة وتصل إلى مرحلة خطيرة. الحقوق التاريخية تستند مصر إلى الاتفاقية التي عقدتها مع السودان عام 1929 وطورتها في 1959، وتعطي لمصر حق استغلال 55 مليار متر مكعب من مياه النيل من أصل 83 مليارا تصل إلى السودان ليتبقى 18 مليار متر مكعب للسودان. وأدى تنفيذ مصر مشروع السد العالي الى تعظيم استفادتها من حصتها من مياه النيل التي كان جزء كبير منها يضيع في البحر، كما تم إنشاء أكبر بحيرة اصطناعية في العالم على الحدود المصرية - السودانية (بحيرة ناصر)، التي تعتبر مخزنا هائلا للمياه لمصلحة البلدين، كما نجحت مصر في السيطرة على حركة النهر، وايقاف الفيضانات المدمرة التي كثيراً ما خرجت عن السيطرة، وهو ما فشل السودان في تحقيقه بسبب الحروب والمشاكل السياسية على أراضيه. ولعل مشروع قناة جونجلي في جنوب السودان، بمشاركة مصرية ودولية هو أهم المشروعات التي كان مقرراً اقامتها في جنوب السودان لتعظيم الاستفادة من مياه النيل التي تضيع، ولكن الحرب الاهلية بين الشمال والجنوب أعاقت تنفيذ المشروع حتى الآن. ومع استغلال بقية دول حوض النيل تباعاً ورغبة هذه الدول في اقامة مشروعات مائية، فإن القاهرة أخذت تشعر بالقلق، ولكنها التزمت بسياسة التشاور والتعاون مع تلك الدول، فساعدت أوغندا عام 1949 على إنشاء قناطر شلالات أوين لتوليد الكهرباء من بحيرة فيكتوريا، ولكن أخطر المشاكل حدثت مع تنزانيا في المقابل بتصريحات وزير الثروة المائية، هاجم فيها اتفاقية 1929 بين مصر والسودان لتنظيم الإفادة بنهر النيل، مشيرا إلى انها اتفاقية في ظل الاستعمار، داعيا الى تعديل «الاتفاقية الظالمة». الدور الإسرائيلي على الرغم من أن مصر لا تتهم إسرائيل علنا بالتدخل في قضية مياه النيل عبر المشروعات التي تدعم اقامتها في دول أفريقية، خصوصا أوغندا وأثيوبيا، لكن هناك تقارير بالغة الأهمية لدى وزارة الري المصرية تشير إلى خطورة تلك المشروعات وإلى قيام إسرائيل بالمساعدة على تنفيذها، في إطار الضغط على مصر وإجبارها على توجيه اهتمامها الاستراتيجي ناحية الجنوب، وإبقائها مهددة بإمكان فتح جبهات مشتعلة في الجنوب. يذكر انه بعد أن عقدت مصر وإسرائيل اتفاقية السلام سنة 1979، وافق الرئيس الراحل انور السادات على طلب من رئيس الحكومة الإسرائيلي الأسبق آرييل شارون بالتعاون في المجلات المائية والزراعية، حيث كانت إسرائيل تطمح في الحصول على حصة من مياه النيل من سيناء عبر صحراء النقب بدعوى إقامة مزارع نموذجية مشتركة، لكن تراجع السادات تحت ضغط من المعارضة المصرية وتم الاكتفاء بمشروعات في الصحراء الشرقية في منطقة النوبارية، وفي سيناء، للاستفادة من الخبرة الإسرائيلية في مجال زراعة الصحراء والاستخدام المحدود للمياه. وفي الوقت نفسه، قدمت إسرائيل تطمينات لمصر بأنها لا تعمل ضد مصالحها الاستراتيجية في الجنوب، وأن المشروعات التي تنفذها مشروعات اسرائيلية دول أفريقية خاصة بتحسين الاستفادة من مياه النهر وتوليد الكهرباء، ولا تتضمن مشروعات تؤدي إلى احتجاز مياه من روافد النهر المختلفة، بعد أن أكدت مصر أن أي عمل مماثل سيكون بمنزلة المشاركة في حرب ضدها. الأسوأ لم يحدث بعد ولكن تلك الأزمة مؤشر على طبيعة الخلافات التي لم تعد مكبوتة بين دول حوض النيل، فلم تعد كلمات الأخوة الأفريقية تكفي، وهي كلمات كانت ذات تأثير جيد أيام الكفاح ضد الاستعمار، وبعد أن تحررت أفريقيا بدأت كل دولة في البحث عن مصالحها، وها هي بعضها تتهم مصر بالاستفادة من عصر الاستعمار الأوروبي البريطاني والفرنسي على وجه الخصوص، للقارة السوداء، بالحصول على حصة الأسد من مياه النيل. ولحسن الحظ، فإن قدرة أي دولة على السيطرة على مياه النيل وحبسها عن بقية البلدان الأخرى أمر مستحيل حتى الآن، إذ تحتاج مشروعات لهذا الغرض عن توفيره من دول المنبع، وبالتالي لا سبيل حتى الآن سوى التعاون المشترك لتعظيم استفادة كل دولة من مياه النهر، واستبعاد لغة التهديدات، خاصة أن حروب المياه قد لا يمكن تفاديها، إذ وصلت الأمور إلى حد اقامة المشروعات التي تهدد بقطع أو تقليل ما يصل الى بقية البلدان، واذا كانت مصر هبة النيل فإنها لسوء حظها ليست بلد منبع وانما بلد المصب النهائي، والمشكلة الآن ان شركاءها يرون أن حصولها على 55 مليار متر مكعب دفعة واحدة لا يعتبر قسمة عادلة. وبدلا من أن تبحث عن مشروعات جديدة لتعظيم استفادتها من النهر، تطالب مصر بأن تدفع ثمن ما أخذته من مياه ومراجعة اتفاقيات عصر الاستعمار، وهي تفتح ابواب أخطر الحروب الأفريقية على الإطلاق.