الجمهورية: 3/4/2009 بعيداً عن جريمة الرشوة الكبري التي تم الكشف عنها في وزارة الإسكان منذ أيام والتي كانت ستهدر فيها مئات الملايين من المال العام مقابل حفنة من المال الحرام.. لابد أن نعترف في شجاعة بأن تعدد الأجهزة الرقابية في مصر والعقوبات القاسية التي توقع علي من يضبط من المرتشين لم تحد من جرائم الرشوة في بلادنا. فكل يوم تحدث العشرات وربما المئات من جرائم الرشوة في كل أجهزة الدولة من وزارات وأجهزة حكم محلي وهيئات ومؤسسات رسمية دون أن تصل يد العدالة إلي المنحرفين وضعاف النفوس ومعدومي الضمير الذين يهدرون الملايين مما تبقي من المال العام مقابل بضعة آلاف تدخل بطونهم ناراً حامية. جرائم الرشوة اليومية التي تحدث في مصر والتي لا يضبط منها وفقاً لبعض التقارير سوي ثلاثة في المائة "3%" فقط لا يتحمل وزرها المنحرفون من الموظفين الذين أدمنوا المال الحرام وحدهم.. ولا تسأل عنها الأجهزة الرقابية فقط.. بل نتحمل "نحن" وزرها الأكبر. لأننا تعودنا علي قضاء مصالحنا وإنجاز أعمالنا مقابل رشوة صريحة أو رشوة مغلفة في صورة هدية أو إكرامية. أو اللجوء إلي صاحب نفوذ لكي يحصل لنا علي امتيازات أو استثناءات خاصة تفضلنا علي غيرنا وتشبع رغباتنا المحمومة في التميز علي بقية خلق الله. صاحب الشركة الذي أبلغ هيئة الرقابة الإدارية بواقعة الرشوة في وزارة الإسكان هو للأسف حالة شاذة بين رؤساء الشركات والمواطنين الذين تعودوا علي أخذ ما يريدون من أراضي الدولة مقابل رشوة.. فمعظم أراضي الدولة أهدرت ووزعت علي شركات وأفراد لا يستحقونها. والذين أعطوها لهم حصلوا علي المقابل. والجريمة التي تحقق فيها النيابة الآن في وزارة الإسكان ليست الأولي. ولو فتح وزير الإسكان الحالي ملفات الشركات والأفراد الذين حصلوا في أوقات سابقة علي ملايين الأمتار من أراضي الدولة دون وجه حق ودفعوا فيها ملاليم وباعوها بعشرات الملايين فسوف يتم إعدام آلاف الموظفين من العاملين في وزارة الإسكان. **** نعود إلي قضيتنا الأساسية هنا وهي ثقافة الرشوة التي شاعت بيننا في مصر ونؤكد أننا المسئول الأول عن انتشار هذا الوباء الذي استشري في كل قطاعات الدولة. فليس من المعقول أن يجلس مخبر أو ضابط أو مفتش أو مراقب مالي وإداري إلي جوار كل موظف معدوم الضمير خاصة أن بعض الذين تورطوا في جرائم فساد ومدوا أياديهم إلي الحرام سمعتهم بين الناس لم تكن سيئة وسجلهم الوظيفي لا يوجد به ما يوحي بفسادهم وانحرافهم.. أجهزة الرقابة تقوم بواجبها وإن كنا نطالبها بالمزيد من الجهد لملاحقة هؤلاء الفاسدين. المهم أن نقوم "نحن المواطنين" بواجبنا ونكف عن الطمع فيما تبقي من المال العام.. المهم أن نتخلي نحن عن طلب مزايا أو استثناءات مخالفة لما تنص عليه القوانين واللوائح والأنظمة المعمول بها.. المهم أن نقف في الطابور مع البسطاء لقضاء مصالحنا ولا نلجأ دائماً إلي الدخول من الأبواب الخلفية.. والأهم من كل ذلك أن نصر علي أخذ حقوقنا بالقانون وأن نتظلم من أي مسئول يتعمد تعطيل مصالحنا وإهدار حقوقنا وتمييز الآخرين علينا. نحن الذين ساعدنا المرتشين علي التكاثر.. نحن الذين أعطيناهم الفرصة لاستغلالنا.. نحن الذين مددنا أيادينا لهم بالمال الحرام وأرسلنا لهم الرشاوي مع وسطاء السوء وبعثنا بالهدايا إلي منازلهم. الرشوة تبدأ في بلادنا بنصف جنيه نعطيه لعسكري المرور لكي يتركنا نقف في مكان ممنوع.. الرشوة نقدمها في صورة "سيجارة" لموظف يقضي لنا مصلحة مفروض عليه أن يقضيها.. ولا فرق بين الخمسين قرشاً التي نقدمها لعسكري المرور وبين المليون جنيه أو أكثر التي نقدمها لمسئول كبير لكي تعود علينا في النهاية بعشرات الملايين. معظم الهدايا التي تقدم لكبار المسئولين وصغارهم هي رشوة محرمة في نظر الشرع والقانون.. هي في نظر مقدمها رشوة.. وفي نظر متلقيها رشوة.. ومع ذلك لايزال كبار الموظفين وصغارهم يتلقون الرشاوي في صورة هدايا يومياً وعيني عينك.. إذن نحن الذين نساعد علي نشر هذا البلاء في بلادنا. **** المصريون لا يكتفون بسيطرة ثقافة الرشوة علي تعاملاتهم اليومية داخل مصر. بل لجأ بعضهم للأسف إلي نقل هذا السلوك المشين إلي خارج حدود الوطن وغلفوها كالعادة بأغلفة مزيفة حتي في تعاملات ينبغي أن تظل بعيدة عن كل ما هو حرام أو يحمل شبهة حرام. مازالت أذكر بمرارة ما حدث معي منذ عامين تقريباً خلال إجراء جراحة كبيرة لزراعة كبد في إحدي الدول الأسيوية حيث سددت ثمن الجراحة بالكامل في خزينة المستشفي وانتظرت دوري لإجراء الجراحة الخطيرة ثم فوجئت بمريض آخر من وطن العزير ويحمل نفس مواصفاتي وفصيلتي يقتنص دوري. وحاولت التعرف علي السبب من إدارة المستشفي دون فائدة حيث رددوا علي أسماعي مبررات وهمية غير مقنعة وسلمت أمري لله وانتظرت. بعد إجراء الجراحة علمت من عدد من المرضي المصريين الذين كان يكتظ بهم المستشفي في ذلك الوقت أن كبير الجراحين يتقبل رشاوي وأن الذين علموه ذلك هم المصريون حيث يذهب كل مريض أو مرافقه للطبيب ويلتقي به في غرفته بعيداً عن عيون الجميع ويشكره علي اهتمامه به ويتأسف له علي عدم تمكنه من إحضار هدية مناسبة لأولاده من مصر ثم يقدم له مظروفاً به ألف أو اثنان أو ثلاثة أو خمسة من الدولارات ويقول له "هذا ثمن هدية متواضعة لأولادك أرجو أن تختارها أنت لهم"..!! سألت أحد المرضي الذين دفعوا رشوة للطبيب: ما الذي سيقدمه لك هذا الطبيب إضافياً مقابل هذه الرشوة؟ اندهش صديقي العزيز رحمة الله عليه من سؤالي الساذج وقال تلقائياً: أولاً: لن أنتظر كثيراً علي قائمة المنتظرين.. ثانياً: سيختار لي الطبيب كبداً جديداً من الأكباد التي تصل إلي المستشفي.. ثالثاً: سيجري لي الجراحة بعناية فائقة.. رابعاً: سيرعاني رعاية خاصة بعد الجراحة.. خامساً: بيده أن يبقيني بالمستشفي فترة أطول بعد الجراحة حتي أخرج وأسافر لأسرتي في حالة مطمئنة.. ثم ختم المريض المصري الذي سافر آلاف الأميال لإجراء جراحة خطيرة خارج حدود الوطن ومن خلفه دعوات المئات من أفراد أسرته وأصدقائه وزملائه اعترافه الخطير قائلاً: كل هذا مقابل ألفي دولار.. كيف فوَّتَ علي نفسك هذه الفرصة الذهبية؟! وهكذا.. أصبحت الرشوة في إجراء جراحة خطيرة في نظر بعض المصريين فرصة ذهبية!! ادعو الله معي أن يتغمد هذا المريض "الراشي" بواسع رحمته.