أربعة آلاف جندي أميركي، أو أكثر بقليل، قتلوا في العراق خلال سنوات الاحتلال الخمس الماضية، ست صور فقط نشرت لبعض هؤلاء... لماذا؟ هي "الرقابة" في بلد "الديموقراطية"... حيث لا حاجة لانتهاك حرمة من قضوا "خدمة للحرية"، ولشركات النفط وجيوب تجار الموت. وماذا عن المليون والثلاث مئة ألف عراقي الذين قتلهم الاحتلال أو تسبب في مقتلهم؟ ماذا عن الآلاف الذين عُذّبوا في سجون الاحتلال... في "أبو غريب" مثلاً؟ صور هؤلاء روّعت العالم... وحظرتها واشنطن. لماذا؟ هي أيضاً "الرقابة في بلد الديموقراطية"... ضد ما اعتُبر دعاية سياسية! لهذه : في نيويورك وسان فرانسيسكو وشيكاغو وسياتل وأطلنطا وبورتو ريكو وغيرها تحت شعار »فن الديموقراطية«، تهكماً، وانطلقت في 4 أيلول وتستمر حتى مطلع تشرين الثاني. هو توقيت قال فريدريكز عنه ل»السفير« إنه متعمد ليتزامن مع الأيام الأخيرة لإدارة جورج بوش، »تأريخاً لإرثه«، وتزامناً مع انتخابات رئاسية، يأمل أن تأتي برئيس يعيد لبلاده سمعتها. هذه »السمعة« بالذات هي محط جدل بين الفنانين المشاركين في المشروع. هل كانت الولاياتالمتحدة يوماً بلداً »مسالماً«؟ هل كانت يوماً بلد الحريات والديموقراطية؟ يقول الفنان روبي كونال ل»السفير« إن »الولاياتالمتحدة لم تكن يوماً بلداً ديموقراطياً حقيقياً«، فكيف تكون ديموقراطية عندما »يشترط« دستورها الذي كُتب عام ،1787 »بلغة مبطنة« أن يكون الناخبون المخولون بالتصويت هم »البالغون البيض حصراً، ممن يملكون أراضٍيَ«؟ كيف تكون كذلك عندما »يكون اقتصادها قائماً على جهد العمال فقط«؟ ثمة صورة رسمها الفنان خوس سانشيس، تختصر الديموقراطية في البلد الذي تأسس ك»إمبراطورية ناشئة« (التعبير للرئيس جورج واشنطن)، فهي تصوّر الأميركي الأبيض يصوب مسدساً إلى رأس الهندي، ثم الأسود، ثم الفيتنامي، ثم الأفريقي، ثم العربي... وثم باتجاه الكرة الأرضية كلها. لماذا »فن الديموقراطية«؟ يروي فريدريكز وهازلوود أن فكرة سلسلة »فن الديموقراطية« أتتهما عام ،2006 أي بعد أقل من عامين على عرض لوحات خطتها ريشة الرسام غاي كولويل في صالة عرض في سان فرانسيسكو، كانت الأولى التي تصوّر عراقيين في معتقل أبو غريب. وكان أشهرها على الإطلاق لوحة »الظلم«، التي تصوّر عراقيين عراة ربط سجانوهم الأميركيون أعضاءهم التناسلية بأسلاك كهربائية. هي اللوحات ذاتها التي دفعت بمتطرفين إلى ترويع صاحبة الصالة لوري هايغ، معنوياً وجسدياً، ما اضطرها إلى إغلاق صالتها لفترة، ودفعت بكولويل إلى الاختباء، حرفياً، تجنباً للأذى. كو كلوكس كلان ترويع هايغ وكولويل يذكّر بحملة الترويع التي شنتها منظمات »كو كلوكس كلان« عام ،1866 ثم عام ،1915 ولاحقاً في الخمسينيات من القرن الماضي، ضد السود (والبيض المدافعين عن حقوقهم) بهدف طردهم... ولو قتلاً أو حرقاً أو شنقاً، »حفاظاً على تفوق البيض«. صور ناشطي هذه المنظمات بأثوابهم البيضاء وأقنعتهم المخروطية، وصلبانهم المحترقة، لا تزال ماثلة في الذاكرة المجتمعية الأميركية، وقد كرّستها الأفلام الهوليودية... في الذاكرة المجتمعية العالمية. الحملة التي تعرّضت لها هايغ، ورفض صالات كثيرة عرض أعمال فنانين أميركيين يناهضون الحرب، دفعا بفريدريكز وهازلوود إلى إرجاء مشروعهما، لحين »تغيّر المزاج العام« في الولاياتالمتحدة، حسبما قال هازلوود. الرسام مارك فالين، المشارك في احد معارض »فن الديموقراطية«، يكمل الفكرة موضحاً ل»السفير« أنه عندما غزت الولاياتالمتحدة العراق في ربيع ،2003 لم تكن هناك أي معارضة تذكر في الوسائل الإعلامية الأميركية. وهو أمر عكسته استطلاعات الرأي التي أظهرت في كانون الأول ،2003 أن 64 في المئة من الأميركيين يؤيدون الغزو. لكن »المزاج« الآن تغيّر، إذ تشير أرقام آذار ،2008 إلى أن 73 في المئة من الأميركيين يعتبرون أن الوضع الحالي للولايات المتحدة ليس سوى نتيجة مغامرتها العسكرية، و66 في المئة منهم يعارضون الحرب تماماً. بالعودة إلى المشروع، يتابع هازلوود أن التخطيط لإقامة المعارض المناهضة للحرب، في نيويورك وسان فرانسيسكو، بدأ في بداية عام 2007: »وباشرنا الاتصال بالفنانين. وكمن كان ينتظر مجرد إشارة، لبى مئاتٌ الدعوة، ودعوا بعضهم بعضاً. فصار لزاماً أن نوسّع الفكرة لتشمل الوطن كله«. الشعور العام كان: »وكأننا أوجدنا إطاراً لغضب الأميركيين من مغامرات بلادهم«. شيء من التاريخ ليست المرة الأولى التي يجتمع فيها الفنانون والرسامون في عمل ضخم ضد الحرب، فقد سبق لرسامين أن نظموا عملاً مماثلاً عام ،1936 لمناهضة »الحرب والفاشية«، وهو فعل تكرر خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن أياً من تلك التحركات »لم ترقَ إلى مستوى تحركنا الحالي... وتحديداً منذ حرب فيتنام«، يقول هازلوود. ويعيد الفنان مارك فالين ما أسماه »الحركة المنشقة« في الفن الأميركي، ويعني فنانين ناهضوا السياسة الأميركية السائدة في أي زمن كان، إلى أيام الرقّ، ذاكراً، على سبيل المثال، الفنان توماس ناست الذي كان في أعماله، في أواخر القرن التاسع عشر، يؤيد حقوق الهنود الحمر والأميركيين الصينيين، وكان من أبرز دعاة إنهاء الرق والفصل العنصري، ومن أبرز المناوئين لمنظمات »كو كلوكس كلان« المعروفة ب»كاي كاي كاي«. رسم ناست في إحدى لوحاته التي حملت عنوان »أسوأ من العبودية«، عائلة أفريقية أميركية خائفة شُرِّدت من منزلها، بعدما أشعل فيه أفراد من »كاي كاي كاي« النار. هؤلاء كانوا يتبادلون التهاني لنجاح عملهم التدميري. ويذكر فالين، في حديثه ل»السفير«، مثالاً آخر عن فنانين ناهضوا العنصرية، في إطار ما عُرف بمجموعة »الثماني«. كان ذلك في بداية التسعينيات، وتحديداً عام ،1907 عندما رفضت صالة عرض في نيويورك عرض أعمال لثلاثة فنانين. ما حدا بزميل لهم إلى سحب أعماله من المعرض، تضامناً معهم، كما عمد إلى إقامة معرضه الخاص الذي ضمّ، إلى جانب »المرفوضين«، أربعة رسامين آخرين. سبب رفض الرسامين الثلاثة يُعرَف عندما نعلم أن النقاد المحافظين أطلقوا على مجموعة »الثماني« اسم »رواد البشاعة« أو »عصابة الثوريين السود«! دعاية سياسية؟! ثمة من قال إن »فن الديموقراطية« قد يُعتبر مجرد مشروع »دعاية سياسية« مناهضة. والدعاية السياسية، كما يعرّفها المفكر اليساري نعوم تشومسكي، هي »هندسة الحقائق والتاريخ«. والتعبير مقتبس عن كتاب وجّهه مؤرخون إلى الرئيس الأميركي الراحل وودرو ويلسون (الذي انتخب للمرة الأولى رئيساً عام 1912) تطوعوا فيه لخدمة السياسة الحكومية، »أو إسكات معارضي الحرب«، كما يقول تشومسكي. ف»ديموقراطية الولاياتالمتحدة تحتّم عليها عدم التحكم بالأشخاص بالإكراه، فتعمد إلى التحكم بأفكارهم«. أي، مثلما يقول القرآن على لسان »فرعون«: »ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد«. لدى الرسام غاي كولويل الذي خصّ معارض »فن الديموقراطية« بلوحة عنونها »فن التعذيب« (تصوّر جنوداً أميركيين يعذّبون عراقياً بأسلوب »الإيهام بالغرق« المحظور)، اعتراض على السؤال، إذ يقول ل»السفير« متسائلاً بدفاعية عالية: »إذا كان ثمة مَن يقول إن لوحاتنا مزعجة، وكأنها بروباغندا، أتساءل لماذا لم يمتعض هؤلاء من الصور التي استوحينا منها أعمالنا. تُرى، أيهما أكثر وحشيةً أن تصوّر رجلاً يعذب آخر... أم أن تكون الجلاد؟!«. كولويل يفضّل »أن يشتري فقراً على أن يبيع ضميره«، فهو يقول إنه لا يريد، عندما ينظر إلى حياته لاحقاً، أن يشعر بأنه التزم الصمت عندما كان يتعين عليه أن يصرخ عالياً احتجاجاً على »مأساة خلّفناها وراءنا«. فن التعذيب... الديموقراطي المعارض المدرجة في إطار مشروع »فن الديموقراطية« حملت عناوين مستوحاة من اللوحات المعروضة، من بينها: »الظلم« و»فن التعذيب« لغاي كولويل. »الحرب والإمبراطورية«، وهو المعرض الأكبر كونه يضم لوحات وتصاميم 45 رساماً، أبرزهم الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو الذي يصور أميركيين يعذبون عراقيين في أبو غريب، ومارك فالين صاحب لوحة »لا أطفالهم ولا أطفالنا«. »صرخة لوحات مؤلمة« للثنائي شايلا وأيك، هي مجموعة لوحات تصوّر »حقيقة« أفراد إدارة بوش. و»ضجة« لكلينتون فاين، خُصصت للاحتجاج على الرقابة الخفية الممارسة في بلاد تعلن نشر الحريات، مستوحياً عمله، كما يقول، من أغنية بينك فلويد »طوبة أخرى في الجدار«، عن جدار الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.