الاهرام :18/10/2008 لاشك أن العالم يعيش منذ مطلع القرن الحادي والعشرين علي وقع نوعين من الهوس الهوس المالي والهوس الأمني منذ أحداث11 سبتمبر2001 وتؤذن الأزمة المالية العالمية الأخيرة بنهاية مرحلة الهوس المالي التي بدأت مع سيطرة الجناح المالي للرأسمالية علي مقاليد الأمور وانتشار اليات العولمة المالية خلال عقد التسعينيات عبر السماوات المفتوحة والمدخرات بلا حدود. ولعل العاصفة العاتية التي هبت علي النظام المالي العالمي خلال الاسابيع الأخيرة ذات دلالات بليغة بالنسبة لمستقبل النظام الرأسمالي, فالازمة بحجمها وأبعادها تفوق ما سمي بالكساد الكبير عامي1929 1930 كما انها وجهت ضربة موجعة للمؤسسات المركزية في وول ستريت التي تشكل قلب النظام المالي العالمي. عصفت تلك الازمة الأخيرة بمؤسسات مالية عريقة لم تنل منها ازمة الكساد الكبير في النصف الأول من القرن العشرين, ويأتي علي رأس هذه المؤسسات ليمان برذرز التي تم اعلان افلاسها للنجاة من مصير اسوأ, كذلك بيعت مؤسسة ميرل لينش التي تعتبر كبري مؤسسات الخدمات والسمسرة المالية في العالم بنصف قيمتها السوقية, كما اضطرت الخزانة الأمريكية إلي ضخ نحو85 مليار دولار لانقاذ كبري شركات التأمين العالميةAIG من افلاس مؤكد, تلك الشركة التي كانت مجمل اصولها تصل إلي نحو تريليون دولار. والملاحظ ان هذه المؤسسات الكبري التي تدير الانشطة المالية علي صعيد العالم وبحجم معاملات غير مسبق, تمثل ما يمكن ان يطلق عليه درة التاج في بنية النظام المالي العالمي الحديث. كما ان الازمة تلاحق مؤسسات كبري مثل: مورجان ستانلي وجولدمان ساكس, تلك البيوت المالية الكبري التي كانت تقوم بابرام كبري الصفقات المالية في العالم من اندماجات واستحواذات, وكان ينظر إلي تلك المؤسسات العملاقة علي انها قلاع مالية منيعة يديرها رؤساء تنفيذيون يتمتعون بالخبرة الواسعة في إدارة المخاطر ويحصلون علي مرتبات خيالية, فاذا بالازمة تجرفهم جميعا إلي المنزلق. ولعل ماحدث كان متوقعا منذ حدوث ازمة التمويل العقاري في الولاياتالمتحدةالأمريكية, وتداعياتها الخطيرة علي القطاع المصرفي الولاياتالمتحدة أوروبا, كما ان هذا المصير كان متوقعا طال الزمن أو قصر نتيجة التوسع الكبير في حجم ونوعية المخاطر والاتجار في المشتقات المالية والتوسع في الاراضي خارج حدود الأمان في غياب ضوابط تحكم سلوك تلك المؤسسات, كما ان جشع رؤساء الشركات والمؤسسات المالية العاملة في وول ستريت دفعهم للتوسع في عمليات شديدة المخاطرة سعيا وراء الارباح التي يحصلون علي نصيب منها في شكل أسهم كافآت كنسبة من حجم الارباح ووفقا لتقديرات مجلة الايكونومست بلغت ارباح قطاع الخدمات المالية في الولاياتالمتحدة خلال العشر سنوات الماضية نحو1,2 تريليون دولار! ولعل حجم الاموال المطلوبة لانقاذ وتعويم تلك المؤسسات في الولاياتالمتحدةالأمريكية وفقا للخطط المقترحة, علي الكونجرس الأمريكي تتراوح بين700 مليار وتريليون دولار وهو حجم غير مسبوق في التاريخ المالي الحديث, ولعل هذا هو الدرس المستفاد من تجربة الكساد الكبير, حيث طال أمد الازمة في اوائل الثلاثينيات من القرن الماضي بسبب انعدام السيولة وعدم ضخ ما يكفي من الاموال للخروج, من الازمة. ولكن ضخ هذا الكم الهائل من الأموال اليوم لتعويم النظام المالي الغارق, حسب ما تم تصويره علي غلاف مجلة الايكونومست في احد اعدادها الأخيرة لايغني عن ضرورة وضع قواعد جديدة لاداء وسلوك المؤسسات المالية العالمية في ظل اتساع موجات العولمة المالية القائمة, وليس سرا انه منذ سنوات توجد دعوة تقودها بعض بلدان العالم النامي الصاعدة . من أجل ما يسمي معمار مالي جديد لتجاوز سلبيات الوضع الراهن الذي قاد إلي الكارثة الأخيرة وذلك بهدف تحقيق درجة أكبر من الاستقرار المالي في بنية النظام العالمي, هذا بالاضافة إلي انه سوف تكون هناك تداعيات كبيرة في الفكر الاقتصادي حول دور الدولة وعلاقتها باداء اسواق المال. ونوعية الضوابط اللازمة لمنع تكرار تلك الازمات والكوارث, علي نحو ما جاء في بعض التصريحات الصادرة عن مسئولين كبار في بلدان مجموعة السبع الكبارG7( وزير المالية الالماني ورئيس الجمهورية الفرنسي, بل تصريحات منسوبة إلي بوش نفسه). ولاغرو في ذلك, فقد نتج عن الكساد الكبير في عامي1929 1930 ثورة في التحليل والفكر الاقتصادي جسدها اللورد كينز في مؤلفه المهم النظرية العامة الصادر عن1936 حيث نادي بدور مهم للدولة في الانفاق العام لضبط مستوي النشاط الاقتصادي حتي يبتعد عن حافة الهاوية, كما نتج عن الكساد الكبير وصول الرئيس فرانكلين روزفلت إلي سدة الحكم في الولاياتالمتحدةالأمريكية وتبنيه للبرنامج الذي تضمن مجموعة من المشروعات العامة للخروج من الكساد عرف باسم الصفقة الجديدةNEWDEAL وذلك تحت تأثير الافكار الكينزية. وهكذا فان اباطرة المال في وول ستريت لن يعودوا إلي سابق سطوتهم ومغامراتهم المالية وجموحهم سواء انتصر الجمهوريون أو الديمقراطيون في الانتخابات المقبلة, فقد سالت مياه واموال كثيرة في النهر, وعلي المقيمين خارجها ان يراعوا فروق التوقيت!