صيحات التحذير والاستنكار التي أطلقها الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي مؤخرا, حول فوضي اسعار الصرف بين العملات الدولية واختلال المراكز المالية للدول. لم تأت من فراغ وانما كانت تعبيرا حقيقيا عن الآثار السلبية المترتبة علي هوس التجارة الدولية في مجال العملات وأثرها علي تدفقات رؤوس الأموال قصيرة الأجل( الاموال الساخنة), نتيجة الخلل في أسعار الصرف والفائدة فيما بين العملات, فكان مأزق الين والدولار. وقد جاءت هذه التحذيرات لتتواكب مع المطالبات المتكررة التي سبق وطرحتها العديد من التجمعات الاقتصادية الدولية والاقليمية بل والاقتصاديات القومية, في ضرورة ضبط أداء التجارة الدولية في العملات والتي تقدر بما يقرب من أربعة تريليون دولار يوميا!!! كما تتواصل عملياتها علي مدي أربع وعشرين ساعة دون انقطاع, وتبسط راياتها علي كل المناطق الجغرافية في الكرة الأرضية, في ظل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. والمطالبة بضبط الأداء لم تكن نتيجة الطبيعة الضخمة والعمليات المتلاحقة لهذه التجارة وكفي, ولكن لتوابعها في انعاش الحساسيات السياسية القومية. وخضوع بعض الدول لحمي المضاربة علي عملاتها والنزوح الجماعي للأموال الساخنة( قصيرة الأجل), كما يفقد البعض الآخر قدراته التنافسية في مجال الصادرات السلعية والخدمات, ناهيك عن تعدد مراكز المضاربة في هذا المجال بين المؤسسات والأفراد. فمع التسليم بوجود بورصة عالمية للعملات منذ السبعينيات مع التحول الي أسعار الصرف المعومة بدلا من تلك المحددة طبقا لاتفاقية بريتون وويدز, إلا أن عقد التسعينيات من القرن الماضي, وابرز ظاهرة أكثر خطورة في التجارة الدولية للعملات, وجاءت الأزمة المالية العالمية الأخيرة. لتعمق من هذه الظاهرة وتبعاتها السلبية علي صعيد النظامين النقدي والمالي. عالميا. ألا وهي'carrytrade' او التجارة الطائرة تجاوزا, وذلك في مجال التبسيط والايجاز في التعبير. * واذا كانت عملات كل من السويد وماليزيا أبرز الأمثلة علي الانعكاسات السلبية لحمي المضاربة علي العملات, فإن اليابان تعد صاحبة الرقم القياسي في مجال تنفيذ اوامر التجارة الطائرة علي الين وجاءت العملة الامريكية الدولار لتنافس نظيرتها اليابانية في هذا المجال, مؤخرا. وقد وقع الين الياباني أسير هذه التجارة علي مدي عقد كامل في ظل اسعار الفائدة المتدنية التي اعقبت الأزمة العقارية في التسعينيات وانكماش سعر الإقراض فيما بين البنوك اليابانية. ثم جاءت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية, وما صاحبها من سياسات نقدية من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي الامريكي في مجال اسعار الفائدة, لتدفع ب الدولار الي معترك التجارة الطائرة او المحمولة التي يقوم فيها اللاعبون بالاقتراض باسعار الفائدة المنخفضة والمتدنية, تطلعا الي الاستثمار في مجالات وأوعية متنوعة, أكثر ربحية وأشد مخاطرة. وتبدو الطبيعة المتناقضة والنتائج المتضاربة لهذا النمط في تجارة العملات الدولية, ممثلة في ان انتعاشها يعني المزيد من التدفقات النقدية والسيولة في السوق العالمية للعملات, كما أن الامعان في ممارستها بالنسبة لعملات الارتكاز, وهي الين ثم الدولار يؤدي الي مزيد من الانخفاض في قيمة هذه العملات. وهذا يؤدي بدوره الي تعدد اللاعبين وصناع السوق وفي مقدمتهم البنوك حيث تستأثر عشرة بنوك عالمية بنسبة ثمانين في المائة من التجارة الطائرة للعملات. وتتسع الدائرة لتشمل صناديق الاستثمار بأنواعها المختلفة وكذلك البنوك المركزية والمؤسسات الاستثمارية انتهاء بالسماسرة ومكاتب تحويل عائدات العاملين في خارج دولهم. كما يؤدي الي اذكاء المضاربة خارج نطاق أي ادارة مركزية لتنظيم هذه التعاملات- علي غرار بورصات الاوراق المالية- وجاءت التطورات التكنولوجية وثورة الاتصالات لتغذي روح المخاطرة والمضاربة علي حد سواء وتعمق من اختلالات التدفقات المالية. ومع توسع البنوك في الاستثمارات ذات المخاطر المرتفعة وتحديدا المشتقات بانواعها المختلفة ازدهرت التجارة الطائرة للعملات وخرجت معاملاتها عن نطاق تصحيح الاختلالات في التدفقات المالية الي هدف الربح, ثم جاءت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية ليزداد النهم الي المخاطرة وتعويض خسائر قطاعي العقارات والأوراق المالية من خلال المضاربة علي العملات, وهلم جرا في حلقة مفرغة قد تؤدي الي سلسلة من أزمات الفقاعات في قطاعات أخري مستقبلا. ولكن ماذا عن الين والدولار؟ أدت التجارة الطائرة المرتكزة علي هاتين العملتين, الي إضعاف سعر الصرف الخاص بهما في مواجهة العملات الدولية الاخري, فكانت الشكوي من تآكل ارصدة الدول الأخري من هذه العملات وبخاصة الدولار واهتزاز الثقة الدولية فيه كعملة احتياطي نقدي إلا أن هذا الوضع, لم يجد من جانب طوكيو وواشنطن استنكارا بل انحصر في نطاق التطمينات, بأن الأمور ستعود الي الأفضل في المستقبل القريب, حيث يكون الين في مواجهة الدولار بدلا من المساواة. والمحرك الاساسي في هذا الموقف, يعود الي تباين سلم الاولويات بالنسبة لليابان والولايات المتحدة مقارنة بالدول الأخري وتحديدا في الاقتصاديات الصناعية الجديدة والنامية. فالأولوية بالنسبة لهاتين الدولتين حاليا, هي زيادة القدرة التنافسية لسلعها ومنتجاتها في الأسواق الخارجية, وهذا يتحقق من خلال انخفاض قيمة عملاتها, ومع تزايد الصادرات تنتعش عجلة الانتاج والاقتصاد القومي, وتستعيد العملة الوطنية قوتها مرة اخري, نظرا لمتانة اقتصادياتها وديناميكية تصحيح الاختلالات في ادائها. خاصة في مواجهة العملاق الصيني. أما الآخرون.. فهم المتضررون الحقيقيون من هذه التجارة الطائرة لأنها تعني مزيدا من التقلبات الساخنة في المضاربة علي عملاتها وتدفقات رؤوس الأموال قصيرة الأجل, مما يستنفد جزءا من ارصدتها الاحتياطية. كما أنها تعني فقدان الكثير من قدراها التنافسية في مجال الاسعار علي صعيد التجارة الدولية المنظورة وغير المنظورة الجديدة, تكون الهدف والملاذ المؤقت لهذه التجارة الطائرة التي تنطلق من الدول الصناعية المتقدمة. بحثا عن مزيد من المخاطر والأرباح المرتفعة, ثم تعود أدراجها الي موطنها. لكل هذه الأسباب لابد من نقطة نظام في النظام النقدي العالمي وتدفقات رؤوس الأموال. بحيث تصحح الاختلالات ولا تؤدي الي تعميقها او اطلاق تداعياتها السياسية والاجتماعية. وذات الهدف يجب ان يأخذه في الاعتبار صانع ومتخذ القرار الاقتصادي علي صعيد الدول وبخاصة النامية فخفض سعر الفائدة وانعكاساته علي سعر الصرف ليس طوق النجاة من أزمات الاقتصاد, بل هو أحد العوامل المساعدة, ولنا في وضع الين والدولار عبرة.