«رمضان كريم».. كلمة لها وقع السحر خاصة في ساعة ما قبل الإفطار العصيبة، حيث يتسابق الجميع للحاق بموعد الإفطار وسط لمة الأهل والأصدقاء. تتعدد صور هذا السباق وتأخذ مناحي شتى.. في الشارع، في المواصلات العامة، في المحال، في أماكن العمل، بعضها طريف، وبعضها الآخر، يتسم بالعصبية وضيق الصدر، ويتحول أحيانا إلى شجار بلا داع ، تتناثر في غباره بهجة الصوم، وحكمته في ترويض النفس وكبح جماحها عن الملذات الحياتية البسيطة. «يا أخي الناس هي الناس، لا أحد يراعي وقار وعظمة هذا الشهر الكريم» .. وحين سألته لكنك عصبي قليلا، استجمع هدوءه المضطرب «أنا مش عصبي هو اللي غلطان.. أنا ماشي في طريقي وفجأة نط أمامي، منحرفا من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال بدون أن يعطي إشارة بذلك ..الحمد الله ربنا ستر مجرد خبطة بسيطة في الفانوس الخلفي».. وفي لحظة انفض الشجار بعناق الرجلين وتبادل كلمات الاعتذار مشفوعة بعبارة «رمضان كريم». في المترو وقبل ساعتين من الإفطار، حيث ذروة الزحام، ينسخ المشهد نفسه بإيقاعات متتالية، تبدأ عادة بإيماءات مقتضبة ونافرة من الوجه تعبيرا عن الغضب أو الضيق، ثم يعقبها أحيانا تبادل كلمات توحي بالعتاب أو النصح، وتحت وطأة الإحساس بالعطش والجوع سرعان ما تتحول هذه الكلمات إلى تراشق بألفاظ مستهجنة، تصل إلى التلويح بمد الأيدي، والاتهام بقلة الأدب والذوق، وعدم مراعاة الأصول .. وهلم جرا، لكنها على عكس الأيام العادية سرعان ما تنفض، وكأنها زوبعة في فنجان، والفضل أولا وأخيرا يرجع للشهر الفضيل، فالكل يستهجن مثل هذه المشاهد في الشهر الكريم، ويسعى إلى إخمادها في الحال باعتبارها سلوكا خاطئا لا يليق بالصائم . لكن محمد وهو مثقف وله رؤية خاصة يقول «ورثنا عن طفولتنا، وربما بحكم الأعراف والتقاليد والتراث الشعبي أن الشياطين تُقيَّد بالسلاسل في شهر رمضان .. مازال هذا الإرث يقفز إلى ذهني، كلما حل رمضان، ومع ذلك صعب أن أتحكم في أعصابي، خاصة في هذه الدقائق الثقيلة جدا قبل الإفطار، وإحساسك بأن رشفات الشاي ورائحة الشوربة تكاد تنزلق على شفتيك، أصعب شيء في الصيام هذه الدقائق، إنها تمر وكأنها دهر.. أترك محمد إلى مشهد آخر قبل ساعة الإفطار: ( نهار خارجي ) حافلة نقل عام مزدحمة كالعادة بالركاب.المحصل يصيح، والسائق تبدو عليه علامات الضجر. على الجانب الآخر، يفز السائق منتفضا من مقعده ياناس وسعوا واتحملوا بعض فيه كراسي فاضية هناك .. يضحك أحد الركاب: نعم فيه كراسي فاضية في دماغي: ( قطع ) الرجل المسن للشاب الجالس خلفه: من فضلك اقفل الشباك... بعد هنيهة من فضلك اقفله وداني تعباني. الشاب: «أنا واربته .. الأتوبيس خانقة ..مش قادر اتنفس». المحصل يعاود صياحه، والسائق لامرأة شابة: «ما ينفعش أقف هنا .. ممنوع يا ستي»..الست بغضب شديد: «انت معندكش دم ، يا أخي راعي إني واحدة ست وفاضل ساعة على الفطار عاوزه أعمل لقمة لأولادي».. السائق: وعجلة القيادة بدأت تهتز في يده: «ومش هنزلك إلا في المكان اللي أنا عايزه» .. ( قطع ) همهمة تسود الركاب، وأصوات تعلو وتخفت: هيه إللي غلطانه. لا السوّاق لازم يراعي، الناس صايمة، وروحها في حلقها.. (قطع) الراجل المسن يقف بعصبية موجها سيلا من الشتائم للشاب.. لحظة وتنزل المرأة الشابة.. لحظة، ويتكهرب الجو، وكلمة من هنا، على كلمة من هناك. تنضبط عجلة القيادة في يد السائق، ويفتح الشاب الشباك، ويصيح المحصل: رمضان كريم. اللهم ارحمنا برحمتك، وسع يا أستاذ لأخيك المواطن. تعلق إمرأة عجوز لجارتها: « يا أختي الدنيا حر وفي ساعة البطون تتوه العقول .. الجوع كافر». خناقات المصريين التي تتحول إلى طرفة في الشهر الكريم على أبسط وأتفه الأشياء يفسرها أحد الأصدقاء الباحثين في علم الاجتماع ، بفكرة الحرمان ويقول: إنه على الرغم من أن الحرمان هنا مؤقت وعابر ومقنن بحكم الوازع الديني إلا أنه يزيد من الرغبة في الاستحواذ على الشيء المحروم منه، وتتكثف هذه الرغبة كلما اقترب ميقات الاستحواذ والإشباع، فالصائم عند هذا الحد يكون مشدودا بكل حواسه إلى الطعام والشراب، وأي شيء يفسد أو يعطل إشباعه لهذه الرغبة، والتفكير فيها يحوله إلى كائن عصبي، شديد الانفعال، وكثيرا ما يصعب أن يسيطر على نفسه، بخاصة في المواقف الحرجة التي تحتاج إلى سعة صدر وحنكة في التعامل . يبرر شهاب وهو أخصائي نظارات طبية عصبيته المفرطة في شهر رمضان قائلا: اخترت الشهرغير المناسب للإقلاع عن التدخين. أمس تشاجرت مع زبون بلا داع، وأحسست بالغضب الشديد من نفسي، وأول أمس تشاجرت مع سائق تاكسي طيب، أراد أن يختصر الزحام المعتاد قبل ساعة الإفطار بالدخول من طرق جانبية، فاتهمته ظلما بأنه يريد تطويل المشوار، حتى يزايد في الأجرة، وحين سألته بعد أن أوصلني للبيت: كم الحساب فاجأني بقوله «اللي تجيبه سيادتك» وحين أعطيته الأجرة أخذها بنفس راضية، وودعني قائلا: «مع السلامة .. رمضان كريم كل سنة وأنت طيب». وحين سألته: هل ستقلع نهائيا عن التدخين، قال لا أكذب عليك ففي كل رمضان أعلن ذلك، لكنني بعد أسبوع أو أسبوعين أعود بالتدريج كالطفل إلى السيجارة اللعينة. المسألة تحتاج إلى إرادة من نوع آخر، لا أعرف كيف أمتلكها، مع إن رمضان يوفر مناخا صالحا للكف عن هذه العادة السيئة. على مقربة من محل شهاب يقف بائع عرقسوس شاب، لكن لصوته رنّة جميلة «العرقسوس .. بلِ ريقك يا صايم» .. قالها بزيه المزركش اللافت وهو يمد أحرف الكلمة الأخيرة، كأنها موال شعبي ينساب في إيقاع متواتر، ثم أردف بندائه الشهير «شفا وخميرة يا عرقسوس». لكن سرعان ما انقلب الحال إلى مشاجرة مع أحد الزبائن حول الأسعار: « يا راجل اتقي الله دول باتنين جنيه ؟!»..« ياعم الدنيا غِلت. إنت مش عايش في الدنيا ولا إيه».. « إديني شويه المدفع هيضرب» ..« أنا متوصي بيك». وعلى أنغام الصَّاجات دبت مشاجرة بينهما، كادت تتحول إلى معركة حقيقية لولا تدخل أحد رجال الشرطة الذي تصادف مروره بالمكان.. وباسم الشهر المفترج قبّل البائع المزركش رأس الزبون، رافضا أن يتقاضى ثمن العرقسوس ..« والله دول هدية مني ليك .. بالهنا والشفا.. حصل خير .. رمضان كريم». تعلق سميحة، صحافية بإحدى المجلات الأسبوعية على هذا المشهد بمزحة ساخرة قائلة: أصل الراجل باع له«العِرق» وساب «السوس». الجو حر ، وسلوكياتنا متلخبطة .. صدقني «القناعة كنز لا يفنى» حكمة جميلة لو كل واحد حطها في دماغه كانت أحوالنا دائما للأحسن. في موائد الرحمن أنا باشوف ناس غلابة بيتمسمروا في الكراسي قبل موعد الإفطار بساعتين، حتى يضمنوا لقمة طيبة تبل الريق، بعد الكد والكدح طوال اليوم.. الناس طيبون بطبيعتهم، والمصري دمه خفيف ابن نكتة، لديه القدرة على السخرية من أي شيء، وتحويلها في لحظات الشدة إلى سلاح للهدم والبناء، حتى لو صام وفطر على بصلة .. فالمهم كرامته. خناقات المصريين الرمضانية تتجدد كل يوم بإيقاع مختلف لكنها تحت مظلة «رمضان كريم» تظل في حيز خفة الروح والظل.