تستعد روسيا لدخول مرحلة جديدة، بعد انتخابات الرئاسة المقررة الأحد، لا يبدو أنها ستختلف جوهرياً عن المسار الذي أنتهجه الرئيس فلاديمير بوتين في السنوات الأخيرة على الصعد المختلفة خصوصاً في المجال الاقتصادي، على رغم العبارات الرنانة التي أطلقها مرشح الكرملين ديمتري ميدفيديف خلال حملته الانتخابية حول التحديث وتطوير الأداء، والاتجاه نحو انفتاح واسع يقوم على ليبرالية الاقتصاد. والأكيد أن الملف الاقتصادي، شكل أبرز التحديات التي واجهت عهد بوتين منذ توليه الرئاسة في عام 2000، وكانت البلاد التي تملك ثروات هائلة في حينه، تكاد تعلن إفلاسها وتتسول المعونات من الجهات الدولية المانحة. فيما كانت بلايين الدولارات من عائدات الموارد الطبيعية الروسية تجد طريقها إلى خارج البلاد سنوياً، في ما اعتُبر «أكبر عملية نهب منظم تعرضت له دولة في التاريخ». ولا تقتصر أهمية الملف الاقتصادي على انعكاساته المباشرة على حياة المواطنين، إذ شكل التحسن الاقتصادي الذي شهدته روسيا خلال ولايتين رئاسيتين لبوتين، رافعة للنهوض على كل الصعد، بدءاً من التحسن النسبي للأوضاع المعيشية المتزامن مع تحسن أنظمة التعليم والصحة والخدمات المقدمة من الدولة للمواطن، وإعادة الاعتبار للمؤسسة العسكرية الروسية وقطاعات مهمة من الصناعات مثل الفضاء والتكنولوجيات الدقيقة، وصولاً إلى حال النهوض على صعيد السياسة الخارجية، في شكل مكّن الكرملين من استعادة مناطق نفوذ مهمة وفتح مناطق أخرى لا تقل أهمية. لكن، بقي النهوض الاقتصادي «أعرج» كما وصفه خبراء، إذ رأوا أن المشكلة الأساسية التي تعاني منها روسيا الآن، تتمثل في الاعتماد الكبير على مواردها الخام، في مؤشر إلى أخطار جدية على مستقبل البلاد بعد مرور عقود تستنفد فيها البلاد مخزونها العملاق من الغاز الطبيعي والنفط. وقبل الدخول في المشكلات الأساسية التي اعتبر كثر أنها تشكل التحدي الأكبر أمام الكرملين في السنوات العشر المقبلة، يجدر عرض «إنجازات» ثماني سنوات قضاها بوتين في السلطة، أسفرت عن تحولات كبرى، حملت روسيا إلى واقع استراتيجي جديد، بحسب الخبراء، لم يعد ممكناً معه تجاهل مصالحها إقليمياً ودولياً، ويكفي أن تدخل البلاد مع حلول هذه السنة الى نادي الأغنياء، بعدما كانت في عام 2000 على حافة التفتت والانهيار، كواحدة من أكبر عشرة اقتصادات في العالم بناتج إجمالي وصل إلى 1.3 تريليون دولار العام الماضي. وبعيداً من لغة الأرقام، نجحت روسيا في تحقيق اختراقات اقتصادية على صعد عدة، داخلياً وخارجياً، فمع تحسن الأحوال المعيشية وارتفاع مستوى الدخل الفعلي للمواطن 12 في المئة خلال عام، انعكس تحسن الأداء الاقتصادي على المستثمرين الأجانب الذين استعادت روسيا ثقتهم، وبدأوا في ضخ بلايين الدولارات في اقتصاد يرى كثر أنه «ديناميكي ويتطور بسرعة فائقة». وبلغ تدفق رأس المال على روسيا 82.3 بليون دولار العام الماضي، في مقابل 42 في العام الذي سبقه، فيما وصل حجم الاستثمارات الأجنبية المتراكم في روسيا إلى 178.5 بليون دولار. ووضعت مؤسسة «إرنست أند يونغ» روسيا في المرتبة الخامسة من بين الدول الأوروبية الأكثر جاذبية للاستثمارات، على رغم أزمة الائتمان ونقص السيولة في العالم. واللافت أن شركات عالمية بدأت تستثمر بقوة في قطاعات استراتيجية مثل صناعة السيارات، ومع الأزمة العالمية ازداد حجم سوق المال في روسيا بنسبة 20 في المئة في عام واحد، وهو رقم يعتبره الخبراء كبير جداً بكل المقاييس. أما على صعيد الشركات الكبرى الوطنية فقد تحول عملاق الغاز الطبيعي الروسي «غاز بروم» إلى أضخم شركات الغاز العالمية برأس مال يقدر ب 350 بليون دولار. ومعلوم أن الشركة تقدم وحدها نحو ربع موارد الخزينة الروسية ، ويسجل كثيرون لبوتين أنه تمكن من تحويل روسيا إلى دولة عظمى على صعيد الطاقة، ويكفي أن أوروبا تستورد نحو ثلث حاجاتها من الغاز والنفط من روسيا في حين يعتمد بعض البلدان الأوروبية كلياً على الموارد الروسية. كما أن موسكو أطلقت سلسلة مشاريع مهمة على صعيد الطاقة خلال السنوات الأخيرة، بينها إنشاء خطوط جديدة لمد الغاز الطبيعي إلى أوروبا بعدما فرضت عملياً سيطرة شبه كاملة على الغاز الطبيعي في منطقة آسيا الوسطى. ومن بين المشاريع الجديدة خطوط «السيل الأزرق» و»السيل الجنوبي»، وشمالاً خط «»نورد ستريم». وبهذه المشاريع تكون روسيا «طوقت» أوروبا بخطوط إمدادات تقلص الأهمية التجارية للخطوط البديلة التي ترعاها الولاياتالمتحدة وتعتمد على نقل الموارد الطبيعية من جنوب القوقاز إلى أوروبا من دون المرور بالأراضي الروسية. والأهم أن روسيا «إخترقت» الأسواق العالمية بقوة مع إنضمام عدد من البلدان الأوروبية إلى مشاريعها لتوريد الطاقة، بدءاً من ألمانيا وايطاليا وصولاً إلى الإختراق الأهم في منطقة البلقان، عبر توقيع اتفاقات شراكة مع بلغاريا وهنغاريا وصربيا. وعلى الصعيد الداخلي أيضاً أعاد الكرملين فرض سلطة الدولة على الشركات الكبرى وتأسست ست شركات قابضة إحتكارية لتعزيز قطاعات حيوية، بينها الطاقة والصناعات النووية والطيران وبناء السفن وغيرها. وعلى رغم الجوانب الإيجابية لهذا التطور، اعتبره المعارضون خطوة إضافية لفرض سيطرة الدولة مباشرة على القطاعات المهمة. ونجح الكرملين أيضاً في تعزيز وضع الروبل في شكل غير مسبوق إعتماداً على الدولار النفطي، لكن هذا التحسن ترافق مع مشكلة لأنه زاد التضخم، وهو أمر سيأتي ذكره لاحقاً. في مقابل الإنجازات الضخمة يرى بعضهم أن عهد بوتين مني بإخفاقات ضخمة أيضاً، لعل أبرزها فشل السلطة في مكافحة مشكلة الفقر التي ترهق كاهل أكثر من ثلث الشعب الروسي، بل تفاقمت المشكلة مع اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتقلص الطبقة الوسطى كثيراً. وعلى رغم الأرقام المعلنة عن تحسن دخل الفرد تبقى المشكلة أعمق من ذلك، لأن ملايين الفقراء الروس فقدوا الإمتيازات والخدمات المجانية التي كانت الدولة تقدمها في السابق. ويكفي القول إن 500 من أثرياء روسيا يملكون حالياً 715 بليون دولار، أي أكثر بقليل من نصف الناتج القومي. وازدادت معدلات التضخم العالية من إرهاق المواطنين، وبلغت بحسب بوتين العام الماضي نحو 12 في المئة لكن خبراء يشككون بهذا الرقم ويعتبرونه مخففاً جداً. كما يقف الفساد على رأس المشكلات التي تعاني منها روسيا. وبحسب خبراء، تخسر البلاد سنوياً نحو 500 بليون دولار بسبب هذه المشكلة التي إعترف بوتين بأنها «تؤرقه» وتعهّد خليفته ديمتري ميدفيديف مواجهتها بقوة . وتبرز بين المشكلات الكبرى الأزمة الديموغرافية الخانقة. وعلى رغم أن روسيا تمكنت من تحسين الوضع في هذا المجال بعدما بلغت حدوداً كارثية في نهاية عهد يلتسن، عندما كانت روسيا تخسر مليون نسمة سنوياً تقريباً، فإن المشكلة مازالت حادة جداً وهي تهدد بأزمة كبرى خلال سنوات قليلة على صعيد الأيدي العاملة. خارجياً فشلت روسيا في الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية على رغم أنها كرست سنوات للمفاوضات على هذا الصعيد. وفي المجال الخارجي أيضاً تبرز المشكلة الأهم التي تواجه الاقتصاد الروسي وهي الاعتماد على صادرات المواد الخام فقط. ويكفي أن هذه المواد تشكل حالياً ما نسبته 67 في المئة من مجموع الصادرات الروسية ما دفع خبراء إلى إطلاق جرس الإنذار من الإقدام على السير في هذا الطريق.