الأهرام: 1/9/2008 مثل غيرنا في كل أنحاء العالم نحن مفتونون بثورة الاتصال. نتحدث عنها بإعجاب شديد, ولم نعرف بعد كيف نصل إلي المدي النهائي للاستفادة منها. سمحنا لها بتغيير اشياء كثيرة في حياتنا. لكن هذا الإعجاب لا ينبغي ان يخفي عنا حقيقة المشكلات التي تصاحبها. صحيح أن تلك المشكلات لن تمنع انتشارها ولن تقلل من استخدامها. ولكن المعرفة بها اصبحت ضرورة. فتكنولوجيا الاتصال الحديثة تخفي تحت ردائها المبهر مشكلات لا تظهر إلا حينما تصبح وسائلها جزءا من الواقع الاجتماعي والثقافي اليومي. فالإنسان الذي أوجد التكنولوجيا يمكن أن يصبح أسيرا لها, تؤثر في نمط حياته وأساليب معيشته بل وثقافته العامة ورؤيته للعالم من حوله. وبصرف النظر عن الجدل حول العلاقة بين الثقافة والتكنولوجيا وأيهما اكثر تأثيرا في الآخر, فإن هناك ظواهر تشير إلي أن تكنولوجيا الاتصال اصبحت عاملا مؤثرا في الثقافة السائدة إن لم تكن في بعض الأحيان عاملا حاسما. ربما كانت اللغة هي الضحية الأولي لتكنولوجيا الاتصال الجديدة. فاللغة التي يستخدمها الشباب اليوم عبر الانترنت ورسائل الموبايل ظهرت بتأثير الوسائل التي يستخدمونها في نقل الرسائل. أي أنها ناتج تكنولوجي فرضته وسائل الاتصال الالكتروني. ولم تظهر نتيجة العوامل التي أدت إلي تطور اللغة ذاتها في العصور السابقة. ولعل التأليف الموسيقي الشائع الآن باستخدام الحواسب الآلية يعطي مثالا آخر للابداع الذي تعرض لتهديد تكنولوجيا الاتصال الجديدة. فالاتصال الالكتروني يهدد علي المدي البعيد كثيرا من العمليات الإبداعية التي سادت عصور الاتصال السابقة ومنها الكتابة الإبداعية. فمع اختزال اللغة وخضوعها لقدرات وسائل الاتصال الجديدة ستفقد اللغة شيئا من وظائفها وتختفي كثير من الفنون الأدبية التي تعتمد عليها. هنا تصبح اللغة ناتجا تكنولوجيا بدلا من أن تكون إبداعا إنسانيا لجماعات مختلفة تثري الحياة الانسانية بتنوعها. وليس من المستبعد أن تفرض تكنولوجيا الاتصال حدود اللغة وعدد مفرداتها وتحدد دلالات ألفاظها. منذ ثلاثة عقود كان عدد المفردات اللغوية المستخدمة في المحادثات التليفونية حسب الدراسات الغربية نحو5000 مفردة. هبط هذا الرقم إلي نحو1800 في رسائل الاتصال الالكتروني. وهبط متوسط عدد المفردات اللغوية المستخدمة في تأليف الروايات من10.000 مفردة إلي نحو3500 مفردة في الأعمال الأدبية المنشورة إلكترونيا. ومنذ ثلاثين عاما ساد لدي البعض اعتقاد بأنه مع التحول نحو البث الالكتروني للمعلومات ستصبح مهمة الإعلام أيسر كثيرا وسيوجد جيل أكثر معرفة من جيل وسائل الإعلام التقليدية غير أن الحقيقة هي أن عصر المعلومات جاء بجيل أقل اهتماما وأقل معرفة كما يقول تقرير مجموعة تايمز ميرو. في ستينيات القرن الماضي أطلق العالم الكندي مارشال ماكلوهان صيحته المعروفة بالقرية العالمية. تنبأ الرجل بأن التطورات في تكنولوجيا الاتصال سوف تحيل العالم كله إلي قرية صغيرة تتردد في أرجائها المعلومات في وقت واحد. غير ان الواقع الجديد وإن كان قد حقق تلك النبوءة, فإنه جاء مخيبا لكل الآمال التي أحاطت بشعار القرية العالمية. فالسنوات العشرون الماضية تؤكد أن تكنولوجيا الاتصال لم تجعل من العالم قرية واحدة بل إنها أعادت تقسيم العالم إلي مئات من القري المنعزلة. ولم تكتف تكنولوجيا الاتصال بتقسيم العالم وإنما قسمت الدولة الواحدة إلي مجموعة من القري المنعزلة أيضا. فالدور الذي كانت تقوم به وسائل الإعلام من قبل في تحديد أولويات الاهتمام وجمع الجمهور حول أهداف واحدة وتحقيق إجماع الأمة اصبح اليوم محل شك. هذا التقسيم الجديد الذي جاءت به ثورة الاتصال لا يستند إلي أسس المواطنة التقليدية جغرافية ترابية أو حتي عرقية. وإنما يرتكز علي أساس جديد له مغزاه في حياة الإنسان. فالتقسيم يتم اليوم استنادا إلي رغبات الانسان الفرد واهتماماته الشخصية. فقد قسمت وسائل الإعلام الجديدة البشر علي أساس ما يرغبون في مشاهدته أو متابعته بصرف النظر عن ثقافتهم أو أماكن وجودهم. هذه الظاهرة أوضح ما تكون الآن في مجالات الرياضة والموسيقي والترفيه. فقد اصبح للأندية الأوروبية في كل أنحاء العالم مشجعون مهووسون بلاعبيها أكثر من اهتمامهم بأنديتهم المحلية. هذه الظاهرة الوليدة دفعت ببعض علماء الاتصال إلي الحديث عن نوع جديد من المواطنة هي المواطنة التلفزيونية أو الإلكترونية. وهي نبوءة تحتمل الصدق أو الكذب بدرجة واحدة نظرا لسيطرة الأساطير الثقافية بدلا من النظريات العلمية في تفسير العلاقة بين الثقافة والتكنولوجيا. غير أن هناك ظواهر تستحق التأمل. فحينما يقضي الفرد خمس أو ست ساعات يوميا في المتوسط العام يتجول بين مواقع الانترنت ويشاهد قنوات التليفزيون التي يشاهدها. هذه المواقع وتلك القنوات تصبح روافد قادرة علي تشكيل ثقافة من يتعرض لها بصرف النظر عن الدولة والثقافة التي يعيش فعليا فيهما. هي تصبح قادرة علي إحداث نوع من التجانس المعرفي والثقافي بين مشاهديها في الأرجنتين وروسيا والولايات المتحدة ومصر والهند والصين وفنلندا ونيجيريا مثلا حين تنتزع مشاهديها من ثقافتهم المحلية لحساب الثقافة التي تنشرها, وتوجد بينهم روابط ثقافية أقوي من تلك التي تربطهم بثقافتهم المحلية. ربما يري البعض في هذه الأقوال نوعا من المغالاة ولكن الحقيقة أن هناك شواهد علي هذه الظاهرة برغم أن عمر الانترنت والتلفزيون الفضائي قصير ولا يزال من الصعب تحديد تأثيراتهما الثقافية بشكل محدد. ففي الصين واليابان مثلا اختفت كثير من القيم الثقافية الوطنية التقليدية لدي الذين يعتمدون أكثر في المعرفة والترفيه علي قنوات التليفزيون الغربية في حين انها لا تزال قائمة لدي الأكثر اعتمادا علي القنوات المحلية. بل إن تصوراتهم عن العالم أقل تماثلا مع تصورات مواطنيهم وأكثر تماثلا مع تصورات المشاهدين لتلك القنوات في بلدان أخري مختلفة ثقافيا. وعلي المستوي الوطني فإن التعدد الهائل في وسائل الاتصال ليس علي الدوام ظاهرة صحية فهي تؤدي إلي تجزئة اهتمامات الجمهور وتقطع أواصر علاقات أقامتها النظم الاجتماعية والتعليمية والثقافية بين مواطني كل دولة مما يولد المزيد من الاحساس بالاغتراب والمزيد من عدم الثقة بالحكومات والمؤسسات الأخري التي تحتاج إلي قدر لازم من الإجماع لتكون أكثر فاعلية. ولست أجادل في حقيقة أن التعددية في الآراء التي تحملها وسائل الإعلام ضرورة لكل المجتمعات. ولكن حين تفتقر تلك المجتمعات إلي الحد الأدني من الاجماع بشأن منظومة من القيم والمفاهيم والقضايا, وحين تظل المواطنة مفهوما غائبا في بعض جوانبه أو غير ناضج بالقدر الكافي فإن تلك التعددية لن تكون ظاهرة صحية في كل جوانبها.