الأهرام 10/8/2008 سبق مصر علي طريق التصنيع, مقارنة بجميع البلدان النامية وبعض البلدان المتقدمة, حقيقة تثبتها إنجازات محاولاتها الطموح للتصنيع طوال القرنين الماضيين. وبانجازاتها, ورغم انتكاساتها, أثبتت مصر مجددا ما كشفت عنه طوال تاريخها الألفي. أعني أنه كلما بدت وكأنه لن تقوم لها قائمة, تنهض عفية جبارة قادرة علي الريادة! ورغم العقبات الداخلية الظاهرة وتحديات العولمة القاهرة, أعتقد أنه لم تتوافر لمصر فرص تماثل من حيث الإمكانية- ما هو متاح لها الآن من مرتكزات التصنيع. أقصد: رأس المال والمنظمين, وقوة العمل المؤهلة للتدريب, وفرص نقل التقنية والإبتكار, والسوق الداخلية والخارجية. لكن التشخيص الدقيق لحالة تصنيع مصر لا غني عنه لتعيين مهامه, وتبني استراتيجية شاملة لتصنيع مصر لا بديل له لتعبئة ركائزه. وبينما تتبين مهام التصنيع برصد فجوة المؤشرات المقارنة العالمية, تشترط تعبئة ركائزه بحشد كامل القدرات الوطنية الكامنة. وأسجل لوزير الصناعة والتجارة مبادرته بنشر المؤشرات الكاشفة لحالة تصنيع مصر, وإعلان نيته باعداد استراتيجية لتصنيع مصر, وإن جري وأد هذا وذاك! ولا أجد تفسيرا لهذا سوي أن إرادة الاستجابة لتحدي تصنيع مصر بتبني استراتيجية للتصنيع قد تراجعت أمام الزعم بقدرة' قوي السوق' علي تحقيق' التنمية الصناعية' في سياق' الاقتصاد الحر'! وأرصد, أولا: فيما يتعلق بمؤشرات تصنيع مصر, أن التقرير ربع السنوي للعام2006 الصادر عن وزارة التجارة والصناعة, علي أساس المقارنة مع اثنتي عشرة دولة ذات مستوي دخل متوسط مقارب لمصر أو تمثل منافسا إقليميا أو عالميا للاقتصاد المصري, يسجل أن مؤشر كثافة التصنيع, الذي بلغ81 في المائة في ماليزيا, لم يتعد48 في المائة في مصر, وهو ما يقل عن نظيره في سبع من دول المقارنة, وذلك في عام.2000 وهذا المؤشر تصدره منظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية, ويمثل نصيب القيمة المضافة للصناعة من الناتج المحلي الإجمالي, ونصيب الصناعات متوسطة وراقية التكنولوجيا من القيمة المضافة للصناعة. وفي ذات العام, شغلت مصر المركز قبل الأخير وفق مؤشر تنافسية الأداء الصناعي, الذي يدمج مؤشرات: نصيب الفرد من القيمة المضافة الصناعية, ونصيب الفرد من الصادرات الصناعية, وكثافة التصنيع, وجودة صادرات السلع المصنعة. ومن مؤشرات القدرة التنافسية للصناعة المصرية يسجل التقرير أن نسبة الصادرات من السلع المصنعة إلي القيمة المضافة للصناعة, لم تتعد6.6 في المائة في مصر في متوسط الفترة2000-2004, وهي نسبة متواضعة للغاية, وتقل بدرجة هائلة عن جميع دول المقارنة. وفي ذات الفترة, كانت الصادرات المصرية راقية التكنولوجيا كنسبة من اجمالي صادراتها من السلع المصنعة منخفضة جدا, حيث لم تتعد0.62 في المائة في المتوسط, وكانت الأدني مقارنة بجميع دول المقارنة, حيث وصلت إلي58 في المائة في ماليزيا, مثلا. وفي عام2005, كان مؤشر التكنولوجيا, الذي يعبر عن مستوي الابتكار وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات, يقل في مصر عن نظيره في ثمان من دول المقارنة. وأسجل, ثانيا: فيما يتصل بالقدرات المصرية الكامنة من منظور ارتقاء التصنيع علي أساس الارتقاء بالمحتوي التكنولوجي الوطني ومن ثم القيمة المضافة للإنتاج الصناعي المصري, ما سجله تقرير التنمية البشرية في العالم2007-2008 من أن عدد العاملين في البحث والتطوير قد بلغ493 لكل مليون نسمة في مصر خلال الفترة1990-2005, وهو ما زاد علي نظيره في سبع من دول المقارنة, بل ويزيد عن نظيره في الهند ومتوسطه لدول أمريكا اللاتينية والكاريبي! ويكمن القيد الأساسي- فيما يتعلق بمؤشرات انتشار وابتكار التكنولوجيا كما يتبين من ذات التقرير- في أن معدل الإنفاق علي البحث والتطوير في مصر لم يتعد0.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي, مقابل2.3 في المائة في العالم, و2.6 في المائة في كوريا و1.4 في المائة في الصين و4.5 في المائة في اسرائيل, ويقل المعدل المصري عن مثيله في جميع بلدان المقارنة كما حددتها وزارة الصناعة والتجارة المصرية, باستثناء أندونيسيا, وذلك خلال الفترة2000 2005. والحصاد منطقي. إذ بينما لم يتعد عدد براءات الإختراع الممنوحة للمقيمين في مصر براءة واحدة لكل مليون نسمة, بلغ هذا المعدل48 براءة في اسرائيل في ذات الفترة! وألاحظ ثالثا: أن تطور توزيع الاستثمار القومي, كما تكشفه سلسلة البيانات الأساسية لوزارة التنمية الاقتصادية عن الخطط الخمسية خلال الفترة1982/81-2007/2006, يبين تواضع وتراجع معدلات الاستثمار في التصنيع. فقد تراجعت نسبة الاستخدامات الاستثمارية المنفذة في الصناعة والتعدين( عدا البترول)23.6 في المائة في الخطة الأولي إلي21.9 في المائة في الخطة الثانية وإلي14.8 في المائة في الخطة الثالثة وإلي10.7 في المائة في الخطة الرابعة ثم الي12.3 في المائة في الخطة الخامسة. وخلال الخمسة العشرين عاما المذكورة بلغ نصيب الصناعة والتعدين( عدا البترول ومنتجاته) من إجمالي الاستخدامات الاستثمارية المنفذة13.9 في المائة بينما بلغ نصيب الإسكان والملكية العقارية9.8 في المائة وذلك باستبعاد الاستثمار في البناء والتشييد بقطاعات الانتاج والخدمات, بل ووصل الاستثمار العقاري الي11.7 في المائة مقابل10.7 في المائة للاستثمار الصناعي خلال الخطة الرابعة! ولعل في هذه المؤشرات ما يبين ضعف دور رواد الصناعة مقارنة بغلبة' لوبي' العقارات, والمرتبطين به من منتجي حديد تسليح والأسمنت والمضاربين علي أراضي البناء, في مجال صنع السياسة الاقتصادية والتشريع الاقتصادي! وأرصد رابعا: أن العقبة الرئيسية أمام التصنيع, والتنمية الاقتصادية عموما, تكمن في ضعف بل وتراجع معدل الاستثمار في مصر. وهكذا, نتبين من سلسلة البيانات الأساسية الصادرة عن وزارة التنمية الاقتصادية عن الخطط الخمسية الخمس خلال الفترة1982/1981-2007/2006 أن معدل الاستثمار قد هبط من30.2 في المائة من إجمالي استخدامات الناتج القومي الإجمالي في عام1982/1981 الي19.8 في المائة في عام1992/1991 وإلي22.4 في المائة في عام2002/2001 ثم هبط إلي15.8 في المائة في عام2007/2006! ووفق النتائج الفعلية الواردة في مشروع خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعام2009/2008, نعرف أن معدل الإدخار المحلي لم يتعد نحو18 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام2007/2006, ولم يتعد معدل الاستثمار نحو21.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وتكفي الإشارة إلي المعدلات الصينية المقارنة لندرك الفارق الحاسم بين توجه وحصاد الإصلاح الاقتصادي فيها مقارنة بمصر. وهكذا, فقد مثلت الصادرات من السلع المصنعة( عدا المنتجات البترولية والتعدينية)92.4 في المائة من اجمالي الصادرات السلعية الصينية, ومثلت صادرات الآلات والمعدات شاملة أجهزة الإتصالات والأجهزة الإليكترونية47 في المائة من صادرات السلع المصنعة. ومثلت صادرات التكنولوجيا الراقية نحو31 في المائة من إجمالي الصادرات السلعية الصينية في عام2005 مقتربة من أمريكا(32 في المائة) ومتفوقة علي اليابان(22 في المائة) وذلك في عام.2006 وارتبط هذا الانجاز الصيني بزيادة معدل الإدخار الي الناتج المحلي الإجمالي من35 في المائة في عام1980 إلي نحو51 في المائة في عام2005 وارتفاع معدل الاستثمار من35 في المائة الي44 في المائة في ذات الفترة, وهو ما زاد علي ضعف المعدل العالمي. المزيد من الأقلام والآراء