الحياة: 28/7/2008 لعل أحد أهم أسباب التخلف القانوني الذي يعيشه عالمنا العربي والإسلامي، يكمن ليس في نقص القوانين والتشريعات بقدر ما هو في كثرتها وتضاربها في كثير من الأحيان! وفي الوقت الذي يعير فيه العالم الغربي اهتماماً بالغاً لمسألة أن القوانين إنما وضعت لتسهيل وتيسير حياة الناس، لا لتكون سبباً في تعقيدها، كما تعبّر عن ذلك المقولة الأميركية «Laws are meant to facilitate not complicate, people's life»، نجد أن القوانين في عالمنا العربي المقلوب، غالباً ما تكون سبباً للتعقيدات الروتينية وتأخير المعاملات، خصوصاً في الإدارات الحكومية، ليتم تطبيق المقولة الأميركية السابقة بالمقلوب! ذلك أن فلسفة وضع القوانين في العالم الغربي تقوم على حماية الأفراد قبل الحكومات، وتبعاً لذلك، فإنه عندما يراد سن أي قانون جديد - سواء كان هذا القانون عن طريق التصويت الشعبي المباشر أم الاقتراع في البرلمانات - فإنه لا بد من أن يؤخذ في الاعتبار مدى التأثير السلبي أو الإيجابي لهذا القانون على المواطنين بالدرجة الأولى. أما في العالم العربي فإن القوانين حين تسن، فينظر إليها من باب حماية الحكومات أولاً وقبل كل شيء، وليس العكس. وكثيراً ما يخطئ المسؤولون في اجتهادهم بسن تشريعات يعتقدون أن فيها حماية احتياطية للحكومات أو حتى للمواطنين، وهي في واقع الأمر ليست سوى تعقيدات إجرائية، يمكن الاستغناء عنها. جالت في نفسي هذه الخاطرة قبل أيام عدة، حينما زرت أحد فروع كتابات العدل، الذي كان يعج بالمراجعين. وبعد السؤال، تبيّن أن الغالبية العظمى من هؤلاء جاءوا لعمل «وكالة شرعية» لمكاتب الاستقدام. ففي المملكة العربية السعودية، حيث يوجد ستة ملايين وافد، يقتضي النظام على «الكفيل» الذي يريد استقدام شخص أو أشخاص أن يعمل وكالة لأحد المكاتب في الداخل أو الخارج الذي سيقوم بإنهاء الإجراءات في السفارات نيابةً عنه، ولا يقبل من ذلك سوى الوكالة الشرعية الموثقة من كتابة العدل التابعة للمحكمة الشرعية. وحيث أن في هذا الكثير من العنت على المواطنين المتمثل في زحامهم، وما ينتج عنه من تأخير مصالحهم، ولأن «الأمر إذا ضاق اتسع» كما هي القاعدة الفقهية المعروفة، ونظراً إلى ما في ذلك من إضاعة لوقت وجهد كتّاب العدل، فإنه ربما كان من التخفيف المطلوب في مثل هذه الحالة، الاستغناء عن هذه الوكالة ابتداءً، بإلغائها بالكامل. وبدلاً من ذلك، يمكن الاكتفاء ب «الوثيقة» التي تسلمها وزارة الخارجية للكفيل، باعتبارها «وكالة لحاملها»، بحيث يتحمل الكفيل المسؤولية عند فقدها في إبلاغ وزارة الخارجية ليتم استبدالها بأخرى، وهو أمر يسير في عالم التقنية الحديث، كما هي الحال مع البطاقات البنكية. وبهذه الطريقة يمكن توفير المال والجهد والوقت على الحكومة والأفراد على حد سواء. بالمنطق نفسه، يمكن القول إن كثيراً من المتطلبات الحكومية الروتينية المعتادة، يمكن الاستغناء عنها باستخدام قليل من المنطق، الذي لا يحتاج إلى كثير عبقرية. فعلى سبيل المثال، القانون الذي تطبقه إدارة الجوازات حالياً، المتعلق بمنع الزوجة والأبناء تحت سن الحادية والعشرين من السفر من دون إذن خطي من الولي يكون موثقاً من إدارة الجوازات ذاتها، وغالباً ما يتسبب في تأخير صفوف المسافرين بسبب التدقيق الذي يصاحبه. ويبدو هذا بارزاً على وجه الخصوص للمسافر عن طريق جسر الملك فهد إلى البحرين، حيث إن قرب المسافة وسهولة الوصول، جعلا من البحرين مكان زيارة شبه يومي لعائلات المنطقة الشرقية، ولكن هذه الإجراءات الاحترازية تتسبب في زيادة اصطفاف السيارات طوابير طويلة، وهي إجراءات مخالفة للأصل الذي تقوم عليه القوانين الشرعية والوضعية في أن «الأصل في الأشياء هو الإباحة» وأن «المنع هو الاستثناء». وهو أمر يمكن الاستغناء عنه باعتبار «الولي» مسؤولاً مسؤولية كاملة عن زوجته وأولاده، وبالأخذ بمبدأ «الموافقة» في القانون، فإن مجرد تسليم الولي جوازات أولاده بأيديهم فإن ذلك يتضمن تصريحاً ضمنياً بالسماح لهم بالسفر، وله - إذا رأى منعهم من السفر - أن يحتفظ بجوازاتهم في خزانته الشخصية، أو في الحالات الخاصة يمكن قبول طلب من يريد منع أولاده من السفر ووضعهم على قائمة الممنوعين، كإجراء استثنائي. وبالمنطق نفسه أيضاً، يمكن القول إن الإجراءات الاحترازية المطلوبة لاستخراج رخصة القيادة في كثير من دول العالم العربي، تحتاج إلى إعادة نظر. ففي الوقت الذي لا يحتاج فيه من يريد استخراج رخصة قيادة في العالم الغربي إلى تقديم أي أوراق كتابية، ويتمكن المتقدم من استخراجها في زيارة واحدة، نجد أن الحال في عالمنا العربي تتطلب تقديم «ملف» كامل، يحتوي الكثير من الأوراق التي يمكن الاستغناء عنها. إضافةً إلى ذلك، لا تزال إدارات المرور في العالم العربي، تتنافس في تضييق الحصول على رخص القيادة وتحديد سنواتها، من دون أن تحقق أي تقدم في تقليل نسب الحوادث المرورية التي لا ينافسنا عليها العالم الأول. وبالمقارنة مع القوانين الغربية، فإن عدداً من الدول الأوروبية تمنح رخصة القيادة «مدى الحياة»، لأن القيادة - كما يقال - كالسباحة، لا يمكن نسيانها. أما في الولاياتالمتحدة، فحدد عدد من الولايات الأميركية سريان رخصة القيادة بسن الستين، ويمكن تجديدها بعد ذلك كل خمس سنوات، بعد عمل اختبار للبصر. وبمناسبة الحديث عن رخص القيادة، فقد واجهت ذات مرة موقفاً طريفاً لا أزال أعجب منه. فقبل سنوات عدة وعند استخراجي رخصة قيادة لسائقي الخاص، وبعد أن قدمت جميع الأوراق المطلوبة في ملف كامل لمسؤول المرور، كانت دهشتي غير متوقعة حين أعاد إليّ المسؤول الملف، طالباً «خطاب تعريف» من العمدة! كان استغرابي يكمن في أن «العمدة» لا يعرفني، فكيف يمكن له أن يُعَرِّفَ بسائقي الأجنبي! ولكن المسؤول أخبرني أن هذا هو «النظام»، ويجب تطبيقه على الجميع. وعلى رغم أن رئيس المسؤول - الذي قبل المنطق الذي حاورته به - عمل استثناءً لحالة سائقي، إلا إنه لم ير بداً من تطبيق القانون على بقية المراجعين. أمر آخر مثير للسخرية، هو ما تشترطه جامعاتنا في العالم العربي على المتقدم، من تقديم «ملف كامل» يحوي ضمن أمور عدة، «شهادة حسن سيرة وسلوك»! ولست أدري أي طالب من قبل لم يستطع الحصول على هذه الشهادة مهما بلغت شقاوته في دراسته الثانوية! وإذا كانت الفائدة العملية لهذه الشهادة لا تساوي الحبر الذي تكتب به، فلماذا الإصرار على إبقائها؟! غني عن القول إن في مثل هذه الخطوات غير التقليدية، سبباً لتوفير استخدام الورق الذي غالباً ما يتم إهداره بسبب الإجراءات الروتينية غير الضرورية، والتي لمثلها تسير الحشود ويتظاهر مناصرو البيئة في العالم الغربي، لما ينتج عن إضاعة الورق من إزاحة مئات الهكتارات من الغابات ونقص للمساحة الخضراء، وما يترتب على ذلك من نقص الأوكسجين، ومن ثم اتساع خرق الأوزون، وارتفاع درجة الحرارة في الكرة الأرضية. كما أن هذا يتماشى مع تعليمات خادم الحرمين الشريفين الذي طالما أكد على المسؤولين تيسير أمور المواطنين الإدارية بقوله: «سهلوا على المواطنين»، لعلمه بما تحتويه الأنظمة من بيروقراطية قاتلة، غالباً ما تكون سبباً في تأخير معاملات الناس. ومعلوم أن في استبدال الأنظمة الإدارية القديمة بالأنظمة الحديثة، بداية طيبة نحو تحقيق الحكومة الإلكترونية التي طالما دعا إليها وحثّ عليها خادم الحرمين الشريفين. المزيد من أقلام وأراء