من يراقب منحني العلاقات بين الولاياتالمتحدةالامريكية، وايران منذ قيام الثورة الاسلامية فيها عام 1979 . والقطيعة التامة التي سادت بينهما منذ ذلك الحين، ثم تصاعد مؤشر العداء بين البلدين بادراج واشنطنلايران ضمن دول محور الشر 'اي معسكر الاعداء' ووصف الاخيرة لها بالشيطان الاكبر.. ثم وصول هذا العداء إلي ذروته علي خلفية البرنامج النووي الايراني بالتهديد بالعمل العسكري ضد إيران أولا من امريكا ثم من حليفتها اسرائيل لابد ان تصيبه الدهشة من ذلك التحول المفاجئ والواضح في المواقف، وذلك التقارب الظاهر بين العاصمتين للدرجة التي حدت بالمسئولين في كل من واشنطنوطهران إلي التلميح بامكانية فتح مكتب لرعاية المصالح الامريكية في طهران وافتتاح خط مباشر للطيران بينهما، وللدرجة التي شجعت واشنطن لأول مرة علي حضور المحادثات الدائرة في جنيف بين الاتحاد الاوروبي وايران حول الملف النووي بايفاد مسئول دبلوماسي رفيع من وزن ويليام بيرنز وكيل وزارة الخارجية الامريكية. ولأن السياسة تتحدث لغة المصالح في الاساس ولاتأبه كثيرا بالمشاعر والعواطف، فلا ينبغي ان نندهش إزاء هذا المشهد السياسي الهزلي.. فقد تغلبت لغة المصالح في ظل اوضاع محلية واقليمية فرضت علي كل من واشنطنوطهران إعادة الحسابات وتليين المواقف ولو إلي حين. فبالنسبة لإيران تزامنت العقوبات الاقتصادية التي فرضها المجتمع الدولي مع تدهور في الاوضاع الاقتصادية الداخلية وارتفاع نسبة التضخم، وربما ساهمت العقوبات الدولية في تأزيم الوضع الاقتصادي في ايران وان لم ترغب في الاعتراف بذلك.. وجاءت مناسبة هذه المحادثات الجارية الآن لتفتح ثغرة في النفق المظلم بتقديم حزمة من الحوافز قد تنجح في الحيلولة دون فرض عقوبات جديدة علي طهران لو استجابت لهذه الحوافز فضلا عن أن الحكومة الايرانية تواجه احتمالات العزلة لو ظلت علي موقفها المتشدد في الملف النووي، وقد ادركت انها ربما لا تستطيع الاعتماد كليا وعلي طول الخط علي اي من الصين أو روسيا لصد محاولات فرض العقوبات عليها في مجلس الأمن. من ناحية اخري، فقد اطلق تصعيد التهديد بالعمل العسكري ضد ايران صافرة الانذار امام نظام الملالي، مما جعلها تدخل في سباق عسكري محموم مع الدولة العبرية ومنافسة في استعراض العضلات، لكن في الوقت نفسه شاهدت طهران ان تل ابيب فتحت مسار التفاوض مع كل من سوريا وحزب الله والفلسطينيين مما يحمل في داخله خطر تحلل الحلف العربي الذي تستند إليه في مواجهتها مع امريكا واسرائيل. أما بالنسبة للولايات المتحدة فان الوضع يبدو اقل تأزما.. فادارة الرئيس بوش الحالية تأخذ طريقها نحو مغادرة الحكم، ولم يبق لها من الزمن سوي اقل من اربعة اشهر لتنشغل البلاد بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر القادم وليرحل الرئيس بوش عن الرئاسة في يناير التالي. وبينما لا تشجع الحسابات العسكرية كثيرا علي تنفيذ التهديد بالتدخل العسكري حتي بيد حليفتها اسرائيل، فانه يصبح من الممكن تفسير هذا اللين الامريكي المفاجئ علي انه رمية بلا رام، او انها مقامرة سياسية باقل التكاليف لو لم تؤت ثمارها لن يخسر احد، اما لو اصابت فسيكون بوش قد قدم خدمة جليلة بحليفته حتي لو كان المرشح الديمقراطي أوباما الذي اعلن عن استعداده في حالة فوزه بالرئاسة لمقابلة الرئيس الايراني احمدي نجاد دون شروط مسبقة. ويكون قد استطاع تحجيم مساوئ عهده قبل مغادرته بتحسين صورته بابداء المرونة مع ايران. لكن هناك الكثير مما ينبغي القيام به للحفاظ علي ماء الوجه في كلا الجانبين، فليس معقولا ان يبتلع العالم هذا التحول الهام بسهولة.. من هنا اصرت واشنطن وهي تبدي استعدادها للانفتاح علي طهران علي التأكيد علي عدم قبولها بأقل من تعليق تخصيب اليورانيوم 'لاحظ تعليق وليس وقف التخصيب'. في المقابل اعلنت طهران ان وقف التخصيب مسألة غير قابلة للنقاش 'اي ان التعليق او التجميد وارد ولكن بشروط'. من ناحية اخري اعلنت واشنطن انه ينبغي ان ترد ايران علي حزمة الحوافز المقدمة لها في جنيف خلال اسبوعين، حتي لا تشعر طهران انها حققت نصرا دبلوماسيا علي واشنطن او انها حصلت علي شيك علي بياض في المقابل ليس من المتوقع ان تبدو ايران كمن اذعنت بسهولة للمطالب الامريكية بعد ان كان الرئيس نجاد يردد ان قطار التخصيب بلا مكابح ولا يمكن ايقافه.. وقد جربت ايران من قبل انها لم تحصل علي شيء مقابل تعليق برنامجها.. من هنا فمن المفترض ان تكون حزمة الحوافز الاوروبية المقدمة علي قدر من الكفاية التي تقنع طهران بقبولها وبتصديق جدواها. هنا تصبح المعادلة التي اقترحها مفوض السياسة الخارجية الاوروبية خافيير سولانا هي الاقرب للحفاظ علي ماء وجه كلا الطرفين وهي علي طريقة سيب وأنا أسيب أو التجميد مقابل التجميد اي ان توقف العقوبات لمدة 6 اسابيع هي فترة مؤقتة للمحادثات المبدئية، تمتنع مقابلها ايران عن التوسع في برنامجها النووي، ثم تبدأ بعدها المفاوضات الرسمية فور تعليق ايران للتخصيب. من وجهة نظر سولانا تسمح هذه الطريقة لايران ان تقول انها علقت البرنامج النووي وسط المحادثات وان تقول امريكا انها لم تبدأ المحادثات الا بعد ان تم تعليق النشاطات النووية الايرانية! امريكا وايران تبدوان في خجل من الاندفاع نحو هذا التقارب.. مرة بسبب طول الشقة بينهما ومرة اخري بسبب عدم انعدام الثقة بينهما.. ولكن للضرورة احكام!