الأهرام: 21/7/2008 مع انعقاد الاجتماع التأسيسي للاتحاد المتوسطي في باريس في الأسبوع الماضي, طغت الهواجس مرة أخري علي الرأي العام العربي, فهو باب خلفي للتطبيع المجاني مع إسرائيل, أو هو إحياء لمشروع الشرق الأوسط الكبير الأمريكي عن طريق الوكيل الفرنسي, وهو هو حلقة في مخطط تغيير الهوية, ولا مانع من اعتباره استئنافا للحملات الصليبية. من السهل القول بأن التوجس, وسوء الظن بكل ما يأتي من الغرب ليس جديدين علي العقل العربي, وأيضا من السهل الدفاع عن حق العرب في الشك في مثل هذه المشروعات في ضوء خبرة التاريخ, ولكن الصعب والواجب في الوقت نفسه هو محاولة فهم المشروع في سياقاته العديدة.. أي في سياق السياسة الفرنسية في عهد الرئيس الجديد نيكولا ساركوزي, وفي السياق الأوروبي, وفي السياق الدولي عموما.. وكذلك من منظور الدول العربية المشاركة في مجمل رؤيتها. في السياق الفرنسي الأوروبي, فتش أولا عن ألمانيا, وفتش ثانيا عن الطاقة. ألمانيا بعد إعادة توحيدها, وبعد توسع الاتحاد الأوروبي شرقا, وبعد خروجها عسكريا إلي البلقان وأفغانستان والقرن الإفريقي أصبحت ألمانيا مختلفة, وكذلك أصبح الاتحاد الأوروبي غير الاتحاد الأوروبي قبل ذلك, ألمانيا الموحدة تطالب بمقعد دائم في مجلس الأمن, وهي تتفوق في حجم سكانها علي كل دول أوروبا الغربية بما فيها فرنسا بنسبة الثلث علي الأقل. ثم هي أكبر اقتصاد في أوروبا, وثالث أكبر اقتصاد في العالم, وثالث أو ثاني أكبر منتج ومصدر للتكنولوجيا وهي القوة الجاذبة والمهيمنة في شرق ووسط أوروبا, وبما أن الخطر السوفيتي زال بزوال الحرب الباردة, وكذلك بما أن ألمانيا أقامت شراكة في مجال الطاقة وغيرها مع روسياالجديدة, فإن مكانة ألمانيا التي كانت ولاياتها الشرقية تحت الاحتلال السوفيتي, قد تحسنت من زاوية الأمن القومي, في حين أن مكانة فرنسا القوة النووية قد تضررت. لكي يؤمن ساركوزي مصادر جديدة لقوة بلاده السياسية داخل وخارج أوروبا, فإنه طرح مبادرتين جريئتين بمعايير السياسة الفرنسية في اتجاهين مختلفين: الأولي هي الانفتاح بلا حساب علي الولاياتالمتحدةالأمريكية. أما المبادرة الثانية فكانت هي موضوعنا.. أي الاتحاد المتوسطي, وهنا لم يفعل ساركوزي سوي أن استلهم المقولة الشهيرة ل بول هنري سباك وزير خارجية بلجيكا العتيد, وأحد الأدباء المؤسسين للوحدة الأوروبية, حين قال: إن أوروبا الغربية لديها رئتان للتنفس, الأولي هي حوض الراين حتي الشمال الاسكندنافي, والثانية هي المتوسط شرقا وجنوبا. وبما أن الراين كله ألماني, مضافا إليه رئة جديدة هي أوروبا الشرقية, فإن فرنسا لم يبق أمامها إلا المتوسط, أما القاطرة التي تقترحها فرنسا لهذا المشروع, فهي مشروعات الطاقة البديلة, لاسيما الطاقة المتجددة, وبصفة أخص الطاقة الشمسية الحرارية, التي قدمت فرنسا مشروعا متكاملا حولها باسم تكنولوجيا الصحراء, وهو مشروع يتطلب استثمارات ضخمة, وأطرا فعالة للتعاون السياسي والإداري, والتكنولوجي لإقامة محطات عملاقة لتوليد الكهرباء وتصديرها لأوروبا. وهنا أيضا يبرز الشبح الألماني محركا للمبادرة الفرنسية, إذ إن تكنولوجيا الطاقة البديلة, وإن كانت قد ظهرت أولا في الدنمارك, فإن ألمانيا سرعان ما تبنتها, وأصبحت هي الأولي أوروبيا في استخدامها, وفي المبادرة بتصديرها عالميا, خاصة إلي دول المتوسط بتسهيلات خرافية, وعليه فإذا كانت فرنسا تريد لنفسها مكانا آمنا في المنافسة علي هذا المورد الجديد غير الناضب للطاقة, فلا مفر من أن تزاحم ألمانيا علي جنوب وشرق المتوسط, إن لم تتمكن من قطع الطريق عليها نهائيا, وهكذا نفهم لماذا طرحت الدبلوماسية الفرنسية مشروعات الطاقة الجديدة بوصفها قاطرة مشروعها للاتحاد المتوسطي. هناك أدلة علي أن الدبلوماسية المصرية تعي هذه الحسابات الفرنسية, وتدرك من ثم الفرص والمحاذير في هذا المشروع, فأدركت أن ألمانيا تتحفظ بشدة علي مشروع ساركوزي إذا ظل فرنسيا خالصا, وأنها رفضت فكرة الجوار الجغرافي مبررا لانفراد فرنسا بالفضاء المتوسطي, وقالت إن الاتحاد الأوروبي, يعني أن كل دولة أوروبية من البلطيق حتي قبرص, جارة لشمال إفريقيا وشرق المتوسط, ولذا فقد بادرت مصر إلي التفاهم مع برلين علي وجه الخصوص في زيارتين متعاقبتين للرئيس مبارك لألمانيا, والمستشارة الألمانية انجيلا ميركل للقاهرة, علي أن تجاوبها مع المشروع الفرنسي يأتي في سياق العلاقة مع الاتحاد الأوروبي ككل, وأنه لن يأتي علي حساب العلاقة الثنائية المصرية الألمانية, وكانت هذه التحركات المصرية سابقة علي تنازلات ساركوزي لميركل أولا, ثم لبقية الشركاء الأوروبيين. في سياق آخر, كانت الدبلوماسية المصرية حساسة أيضا للتحفظات العربية علي المشروع الفرنسي, خاصة تلك المتخوفة من تحويله إلي مظلة لتطبيع العلاقات بين الشركاء العرب وبين إسرائيل, دون, أو من قبل أن تدفع إسرائيل استحقاقات السلام, لكن يجب ألا تضيع فرصة لإقامة تنظيم مؤسسي, أو شراكة اقتصادية استراتيجية مع الفرنسيين ومن ورائهم الأوروبيون لاقتحام ميدان إنتاج الطاقة المتجددة بكل وعوده التنموية الثمينة, لاسيما أن مصر نفسها سوف تكون من أوائل الدول التي تعاني تناقصا ثم نضوب مصادر الطاقة التقليدية من بترول وغاز.. مثلها في ذلك مثل معظم دول الاتحاد الأوروبي. المسيري.. استقلال لا اعتزال أعرف الكثير عن شخصية ومكانة وإنجازات الراحل الباقي عبدالوهاب المسيري.. فقد جاورته في السكن فترة كافية, وزاملته في الإعداد الأولي للموسوعة.. ولكن أهم دروس حياته العريضة, وقيمته الأكبر في الحياة الثقافية والسياسية المصرية في رأيي أنه نموذج نادر لاستقلال المثقف عن كل المؤسسات الرسمية والأهلية تماما ونهائيا, دون انسحاب من الحياة العامة, أو اعتزال لتفاعلات المجتمع, وبذلك فإنه قال للجميع: إن هناك طريقا ثالثا بين الاعتزال علي طريقة الراحل العظيم جمال حمدان, وبين التبعية.