الجمهورية 16/7/2008 ** من المفارقات الغريبة التي يحار المرء في تفسيرها هذه الأيام.. هوس الناس بالمصايف- أغنياء وفقراء- رغم الشكاوي التي لا تتوقف من "الغلا والكوا" وسوء الحال والمآل.. والضغوط المستمرة ليل ونهار في البيت وفي الغيط وفي كل مكان..وأن الناس تأكل بعضها.. ولا أحد يرحم أحداً. وكل لديه مبرراته في نهب صاحبه حتي ولو جرده من هدومه!! السؤال إذا كانت الحالة بالغة السوء.. وأن الغلاء فعل بالناس الأفاعيل- وهذا صحيح- فلماذا لا يضع الناس سُلَّما للأولويات وترتيبها وفقاً لما هو متاح من ميزانية وعلي قدر الدخل العام والاحتياجات المنزلية والأسرية والاجتماعية أيضاً؟! لابد من التأكيد أننا لا نحجر علي أحد.. ولا نريد أن نحرم خلق الله من الاستمتاع بما خلق الله في الطبيعة من جمال البر والبحر والجو علي السواء.. ولا أن نجعل نعمة المصيف أو التصييف حكراً علي صنف من عباد الله رزقهم الله بسطة في المال والجسم أيضاً.. ولا أن نكرس أفكاراً طبقية أو فئوية برجوازية أو غير ذلك- أو لا سمح الله- لا نريد للناس أن تنفض همومها أو تغسل أوجاعها.. أو تلقي بأوزارها في البحر.. ويعيشون في هم وغم متواصلين بالليل والنهار.. ولكن نريد تحكيم العقل والمنطق.. التعامل بجدية مع الواقع.. مع القدرات والإمكانيات الحقيقية للأسر والأفراد.. بعيداً عن التقليد الاجتماعي الأعمي.. والتكلف في المظاهر وادعاء التحضر والمدنية.. واختراع ضرورات ولزوميات لا لزوم لها.. لن تتوقف الحياة إذا ما غابت من الحياة ولن تحدث ثورة كونية إذا ما مارس الجميع طقوساً متشابهة أو إذا لم يذهب الجميع إلي البحر صيفاً. 7** شاهدت في الوفود المتجهة إلي المصايف أناسا بل عائلات وأسرا.. لم ؟؟؟؟يكونوا يعرفون للبحر طريقا.. ولا يرونه إلا في الصور والتابلوهات أوكروت المعايدة التي انقرضت.. يستدينون ويقطعون من ميزانيتهم أو كما يقولون- يأخذون من لحم الحي- لقضاء أيام علي شاطئ البحر. بل إن بعض الفلاحين- وبعض الفئات في المدن الريفية- يتكالبون علي حجز شقق وشاليهات في المدن الساحلية بالأسبوع وفي أكثر من مدينة.. ويبحثون عن وساطات من هنا وهناك لدخول شواطئ خاصة أو شبه مغلقة علي فئات بعينها معروفة بثرائها الفاحش أو بخدماتها المميزة التي لا يقدر عليها إلا هؤلاء وأشباههم!! ** المفارقة الأخري: أن أحداً لم يعد يفكر في أن يقضي الصيف داخل الريف أو في القرية.. الكل يبحث عن البلبطة في مياه البحر وارتداء المايوهات و"الهوت شورت" بعيداً حتي عن أحاديث النفس فيما يجوز وما لا يجوز شرعاً أو عرفاً المهم البحر ومتطلباته. ولعل هذا التوجه- في نسيان الريف أو هجرانه- هو الذي يشكل عبئاً كبيراً وضغوطاً أكبر علي المصايف الساحلية وتسبب في إشعال نار الأسعار بها سواء في المسكن أو في متطلبات المعيشة لأيام قليلة. قد يقول قائل: إن الريف لم يعد كما كان قديماً.. وأن القرية زمان لم يعد لها وجود وتغيرت الأخلاق.. وتبدلت العادات.. وطغت المدنية بأخلاقها.. وغاب الود.. وانزوت الألفة.. وضاعت الحميمية.. واندثرت الأريحية.. وحتي الأطلال زالت.. واختفت ليلي وراء الحجب. وهذا في معظمه صحيح.. لكن المأساة أن أحدا لم يحاول وقف النزيف المستمر ليل نهار.. أن يكبح جماح التردي أن يحافظ علي البقايا.. ويحتضن القيمة الجميلة قبل أن يتم اغتيالها.. وكل استسلم لما هو قادم.. ونداء الخروج والانسلاخ والتجرد.. اخلع مما أنت فيه.. وتوجه إلي أي مكان آخر.. المهم أن تخلع.. وتذهب حتي إلي البحر.. وللأسف فعل الجميع ذلك بدم بارد.. ودون أن تطرف لهم عين.. أو يبتل لهم جفن!! ** الطريف أن تظهر دعوات العودة إلي الريف ولكن الأوروبي أن يتم استغلال "الريف" واسمه وسماته في الترويج.. في عمليات الجذب. وربما الخداع- ولن نصل إلي حافة النصب- المهم اسم الريف مطروح.. وسماته هي السند والساعد لكي تدفع.. وبكل سخاء.. ليس بالآلاف ولكن أيضاً بالملايين.. حتي الشقق بالملايين.. ولا تتعجب ولكن اقرأ علي عجل تلك الإعلانات الاستفزازية تملك شقة 120 متراً.. الأسعار تبدأ من ثلاثمائة ألف جنيه أو نصف مليون جنيه. ** ولك أن تعجب أن هذه ليست المرة الأولي التي يستغل فيها اسم الريف.. ولكن من قبل نجحت وباقتدار لعبة "القري السياحية".. وكانت "القرية" هي المفتاح السحري.. لفك شفرات أي مدخرات سواء في داخل مصر أو في خارجها.. ونجحت "القرية" في انتزاع المدخرات وتحويشة العمر للكثيرين.. علي حلم أو وهم قرية علي الساحل الشمالي أو علي الساحل الشرقي.. أو أي ساحل.. حتي جرفهم الساحل.. أو انسحلت الأحلام وضاعت المدخرات.. وانكسرت معها أشياء كثيرة لم يعد بمقدور أحد اصلاحها في الولاء والانتماء.. لولا بقية من إيمان وارتباط بهذا التراب العزيز! ** لقد تحولت المصايف إلي حالة من "الهوس" الاجتماعي في عالم لا يرحم صغيراً ولا ضعيفاً.. ولا فقيراً.. في عالم يفرض سيطرته وسطوته علي الفقير ومحدودي الدخل عالم يركز علي كيفية النهب والسلب.. يتفنن في أن يسرقك رغم أنفك وبمزاجك ورضائك أحياناً أخري.. عالم يبيعك بأبخس الأثمان وبالتراب وبلا ثمن لو استطاع. أعيدوا النظر.. رتبوا الأولويات.. قبل أن "تصيفوا" من الحياة إلي الأبد.