الأهرام: 22/6/2008 ما لا يؤخذ كله, لا يترك جله. فكل شيء المفروض أنه عملية تستغرق وقتا. فإذا كان المطلوب هو تحجيم الاحتكار في الاقتصاد المصري, فليس من المنطقي أن نتوقع حدوث هذا بمجرد صدور قانون واحد. (1) ليس صحيحا أن الاحتكار يوجد في نطاق الحديد والصلب وانتاجه فقط. فالصحيح أنه يوجد في الحديد, والأسمنت, والدواء, والسيراميك, والسجاد, والنسيج, والملابس الجاهزة, والبنوك, وصناعة السيارات أو تجميعها وأدوات التجميل والزينة والتليفونات, والنقل, والسكك الحديدية, والكهرباء, ومياه الشرب, والغذاء, وفي الاسكان والبناء والتشييد, فضلا عن مجال التصدير والاستيراد... الخ. وليس صحيحا أيضا أن هذا المركز الاحتكاري الذي تشغله بعض الوحدات الانتاجية, أو التجارية, داخل الاقتصاد المصري هو أمر جديد. فالصحيح أن هذه المراكز الاحتكارية كانت موجودة في الفترة ما بين الحربين الأولي والثانية(1919 1945), وعندما نفذت دولة يوليو1952 عمليات التمصير ثم التأميم, استمر الاحتكار, لكنه انتقل من احتكار رأس المال الخاص, إلي ممارسة الاحتكار من قبل رأس المال الذي انتقلت ملكيته إلي الدولة أو المجتمع. ومن هنا, شاعت فكرة أن العقود التي كانت تنشأ في تلك الفترة بين المواطن وأي هيئة في الدولة, هي في حقيقتها عقود إذعان, لماذا؟ لأنه ليس هناك أمام المواطن بديل آخر لتلبية حاجته إلا عن طريق هذا العقد الموقع مع تلك الجهة. وعندما بدأت مرحلة الانفتاح الاقتصادي, ومنذ السبعينيات لم تختف الظاهرة الاحتكارية, بل انتقلت إلي القطاع الخاص الذي نشأ بدعم من الدولة وعن طريق الدخول في علاقات معها وتبادل مصالح ومنافع. ويمكن القول باطمئنان إن كل الوحدات التي يزيد حجم عملياتها السنوي علي مليار جنيه تشغل مركزا احتكاريا في حدود القدرات والامكانيات المالية للاقتصاد المصري. (2) هكذا, يتبين لنا أنه ليس صحيحا أن طرفي الصراع حول قانون الاحتكار وضمان حرية المنافسة هما شخصان اثنان, بل هناك طبقة اجتماعية كاملة من أصحاب المصالح تقف في مواجهة جهاز منع الاحتكار. وقد يبدو للبعض ان بعض الرموز الظاهرة بالاسم هي التي تمثل الاحتكار فقط, ولكن الحقيقة أن هذه الرموز, هي التي تم التركيز عليها إعلاميا في الصحف والتليفزيونات... الخ ولكن هذا لا يعني قط أن هذه الرموز هي وحدها الاحتكارية, فالحقيقة أن هذه الرموز البارزة هي مجرد قمة جبل الجليد المغمور تحت الماء التي لا يري الناس إلا قمتها فقط. أضف إلي هذا أن جهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار, لا يعبر عن تيار اجتماعي قوي, فليست هناك كيانات اقتصادية ناشئة قوية, سواء في مجالات الصناعة أو البنوك أو الاسكان أو النقل... الخ, تشغلها قضية المنافسة. فالغالب أنها جميعا مهمومة بأن تنضم إلي أحد الأقوياء ليحميها وتجني المكاسب من حوله حتي تحين اللحظة التي تصبح هي فيها قوية لكي تحل محل من كان يحميها أو لكي تشاركه, واذن فالمنافسة ليست واردة علي عقلها ثم إنه لا توجد منظمات بين المنتجين أو التجار أو المستوردين تجعل همها الدفاع عن المنافسة ومكافحة الاحتكار, حتي في نطاق الغرف التجارية, والصناعية, واتحاد الصناعات.. فنظرة سريعة إلي أسماء قياداتها, تبين بوضوح أنهم في غالبيتهم من رجالات الاحتكار. وعلاوة علي كل هذا, فليست هناك بين الناس العاديين, والأحزاب السياسية, حركات شعبية لها قيمة للدفاع عن حقوق المستهلكين فهذه كلها مازالت قيما أو مفاهيم مستوردة من مجتمعات غرب أوروبا والولايات المتحدة وكندا واليابان, ولم تتأصل في وجدان المواطن المصري, ولا يشعر بأن لها قيمة فعلية في الدفاع عن حقوقه. بمعني آخر, فإنه لم تظهر حتي الآن حركة شعبية في الشارع, أو تيارات داخل الأحزاب السياسية أو المجتمع, تهتم فعلا بهذا الموضوع. ولذلك يقف جهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار وحيدا أمام هيئات عملاقة شديدة القوة والنفوذ والسلطة. (3) وفي هذا السياق يجب أن نفهم أن الهزيمة التي لحقت بجهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار هي محصلة لتوازن القوي السياسية والاجتماعية بين أنصار الاحتكار وخصومه وهي محصلة طبيعية جدا, والأفضل أن نعتبرها الجولة الأولي علي أساس أنه عبر السنين, ستولد صناعات ومنشآت وتيارات وأحزاب في المجتمع المصري لها مصلحة في مقاومة الاحتكار ولا شك في أنها ستكون قادرة في تلك الجولة المقبلة علي أن تنتزع مكاسب أخري, وهذه ستليها جولة ثالثة, ثم رابعة.. وهكذا. وكل شيء في هذا الصراع أو التنافس, يتوقف علي حركة المجتمع المدني. فكلما كان جهاز حماية المنافسة يعبر عن تيارات اجتماعية قوية, كان الجهاز أشد تأثيرا وأقل قابلية للهزيمة منه عندما يكون مجرد جهاز بيروقراطي يعتمد بالكامل علي قرارات إدارية بتكوينه دون وجود تيارات اجتماعية تحميه وتعززه وتقف معه.. وعلينا أن ندرك في النهاية أن الوحدات الكبيرة في الاقتصاد المصري, حتي في مجال الحديد, ليست شياطين أو أبالسة.. ولو كانت تمارس الاحتكار فهي تضع رؤوس أموال طائلة في مجال استقدام تكنولوجيا يحتاج اليها الاقتصاد المصري بشدة.. وعلينا أن نعرف كيف نتعامل معها, ونتحاور بل وحتي نتصارع معها دون تدميرها لأن هذا ليس في مصلحة الصناعة المصرية علي المدي الطويل.