هذا السم الزعاف الذي طالما كان أداة جريمة في الواقع وفي الروايات والافلام، آن له ان يدخل عالم الدواء بعد ان اثبت فعالية في معالجة مشاكل نظام المناعة في الجسم. الواقع ان فوائد الزرنيخ (وبالذات ثالث اكسيد الزرنيخ) العلاجية، اذا اعطي بجرعات بالغة الصغر، معروفة منذ القدم. فقد استخدمه اليونان القدماء لعلاج بعض امراض الدم، كما وصفه ابو بكر الرازي لعلاج فقر الدم والتهابات الجلد والاعصاب. وفي بدايات القرن العشرين استخدمت مركبات عضوية للزرنيخ في علاج الزهري. وقد استخدم مؤخرا في علاج السرطان. لكن ما اكتشفته منيرة شلبي-الكس من المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا، وزميلها بيير بوبي من جامعة جنوب باريس، يفتح المجال لتطبيقات علاجية غير متوقعة. تعتبر امراض فرط المناعة الذاتية ثالث مسبب للوفاة في الدول الغربية بعد امراض القلب والسرطان. في امراض المناعة الذاتية يتحول جهاز المناعة ليعمل ضد الجسم نفسه. يوجد نحو اربعين مرضا ناتجة عن هذا الخلل في جهاز المناعة منها القراض والتهاب المفاصل الروماتزمي. لا يوجد علاج حقيقي حتى الان لهذه الامراض. كما ان معظم الادوية المستخدمة لعلاجها تسبب اعراضا جانبية خطرة ناتجة عن تثبيطها او اضعافها لجهاز المناعة في الجسم. وهنا جاءت التجربة المهمة للطبيبة الفرنسية من اصل عربي منيرة شلبي وزميلها في اعطاء جرعات من الزرنيخ لفئران مصابة بامراض المناعة الذاتية. وكانت النتائج مذهلة اذ شفيت جميع الافراد المريضة، اي بنسبة نجاح 100%. وامتدت حياة الفئران بعد شفائها لتعيش سنتين (مثل اي فار عادي)بدلا من اربعة اشهر فيما لو لم تعالج. يعترف الباحثان بان فكرة معالجة الفئران المريضة بالمناعة الذاتية بواسطة الزرنيخ قد نتجت عن لقاء حصل بمحض الصدفة. لم تكن منيرة وبيير على معرفة مسبقة ببعضهما بعضاً. فقد كان بيير بوبي يعمل في مجال الاسباب الجينية لامراض فرط المناعة الذاتية، وذلك بدراسة فئران حولت جينيا بطريقة تجعلها تصاب بامراض مشابهة لامراض البشر في فرط المناعة الذاتية. كان بيير يعطل عمل جين يدعى (فاس) مما يؤدي في النهاية لالتهاب معظم انسجة الجسم ثم الوفاة المبكرة. اما منيرة شلبي فهي مختصة بالانترفيرون، الذي يستخدم كمضاد للفيروسات وللخلايا السرطانية. في اواسط التسعينات اولت منيرة اهتمامها لابحاث الاستاذ الصيني جوشن من معهد علوم الدم في شنغهاي، والهادفة لعلاج احد الانواع النادرة من سرطان الدم. وبعد محاولات عدة فاشلة لجأ جوشن وزملاؤه الى اعطاء مرضاهم جرعات من الزرنيخ. وكانت المفاجأة انهم لاحظوا تحسنا بل شفاء بنسبة كبيرة لدى هؤلاء المرضى. في عام 2002 انتقلت منيرة للعمل في نفس المعهد الذي يعمل فيه بيير. وتكرر النقاش بينهما حول نتائج الباحثين الصينيين وحول ابحاث بيير في المناعة الذاتية. وهنا خطرت لهما فكرة استخدام الزرنيخ لعلاج امراض المناعة الذاتية. ابتدأت التجارب عام 2002. وعلى مدى 35 يوما، اعطيت جرعات يومية قدرها 5 ميكروغرام (جزء من مليون من الغرام) من ثلاثي اكسيد الزرنيخ لفئران مصابة بالتهابات في الرئتين او الكلى او الجلد...وكانت النتائج مذهلة . فقد شفيت جميع هذه الفئران، كما عاد جهاز المناعة الى وضعه الطبيعي ولم يعد يعمل ضد الجسم. استمرت التجارب حتى عام 2006، وكانت النتائج جيدة دون ظهور اعراض جانبية. لكن الباحثان مازالا يجهلان الالية الدقيقة لعمل الزرنيخ. كما انهما يخططان لتطبيق هذا العلاج على الانسان في اقرب وقت. يبقى ان نشير الى اهمية الالتزام بالجرعات التي ثبت انها آمنة. وكما قال الطبيب الالماني براكليس (1493- 1541): كل شيء سام، ولا شيء سام. فقط مقدار الجرعة هو الذي يحدد ذلك