تراكم الفضائح الواحدة تلو الأخرى لتطرق بوابات مقر رئيس الوزراء البريطاني في «10 داونينج ستريت«، فلم يكد ينتهي «براون« من واحدة حتى تأتي الأخرى لتؤكد ثقل الإرث الذي تركه له سلفه «بلير«، فبعد أشهر من توليه السلطة - في يونيو 2007 - يواجه حزب العمال فضيحة سياسية جديدة تتعلق بمصادر تمويله. في البداية.. الكل يعلم أنه عندما تولى «براون« منصبه، كان حزب العمال في خضم تحقيق بالفساد أثناء ولاية «بلير« الذي أصبح أول رئيس وزراء يتعرض للاستجواب من قبل الشرطة أثناء توليه منصبه، وبعد أقل من ستة أشهر، وعلى الرغم من وعوده بإعادة الثقة إلى الحزب،تفقد يضطر «براون« بدوره إلى الخضوع للاستجواب عندما يقرع المحققون باب مقر حكومته، ليعيد إلى الذاكرة التباين بين ما قاله «بلير« عشية توليه الوزارة عام 1997، حينما وعد بالالتزام بالنزاهة الشديدة بعد سلسلة اتهامات بالفساد طالت حكومة حزب المحافظين، وبين ممارسته التي كشفت عن إخفاقات عديدة. وفي ضوء ذلك، يثار التساؤل حول مستقبل «براون« السياسي وقدرته على التعامل مع تلك الفضيحة التي لا يقتصر تأثيرها على مستقبله السياسي فحسب، بل تمتد إلى مستقبل حزب العمال وقدرته سواء على خوض الانتخابات المقبلة أو القدرة على الاستمرار حتى موعدها من دون الحاجة إلى انتخابات مبكرة. وما يشهده حزب العمال اليوم من فضيحة مالية حول قضية التبرعات لم تكن الأولى من نوعها، فقد شهد الحزب مؤخرًا العديد من الفضائح المالية التي لا تغيب عن الذاكرة، منها الاتهام الذي كشفت عنه الصحف البريطانية في الرابع والعشرين من أغسطس عام 2004، بقيام رجل الأعمال اللورد «درايسون« بمنح حزب العمال 500.000 جنيه إسترلينى بعد ستة أشهر من حصوله على لقب لورد، ولكن تظل قضية «الألقاب مقابل القروض« من أبرز قضايا الفساد في تمويل الأحزاب السياسية خلال عهد الحكومة العمالية، التي ترجع بدايتها إلى قيام أعضاء الحزب القومي الأسكتلندي بتقديم بلاغ يتهم حزب العمال بالتحايل على القانون بالمتاجرة في الألقاب الفخرية ومناصب مجلس اللوردات، وذلك مقابل الحصول على قروض طويلة الأجل أو بفوائد لا تذكر للحزب.. ولأن القانون يلزم بالإفصاح عن التبرعات، ولا يذكر شيئًا عن القروض، لجأ الحزب إلى القروض بدلاً من التبرعات لدعم حملته الانتخابية، بما يجنبه الإفصاح عن المصادر، مع مكافأة مقدمي القروض بألقاب ومراكز. وقد تفجرت القضية بصورة علنية مع اعتراف أمين خزانة حزب العمال «جاك رومي« في مارس 2006 بأن زعماء الحزب قبلوا قروضًا سرية للحملات الانتخابية مقابل منح لقب «النبلاء«، وهو ما أثبتته التحريات بتقاضي حزب العمال بالفعل قروضًا وصلت قيمتها إلى 24.5 مليون دولار(ثلاثة أضعاف القيمة المعلنة التي قدرت ب 7 ملايين $) وذلك من مجموعة من الأشخاص بينهم ثلاثة من رجال الأعمال الأثرياء الذين رشحهم «بلير« للحصول على لقب «النبلاء«، وهو ما أنكره «بلير«، مشيرًا إلى أن حجم القروض والتبرعات لم يتجاوز 7 ملايين، وقام الحزب بإصدار قائمة في 20 مارس 2006 بأسماء رجال الأعمال الذين اتُهم «توني بلير« بترشيحهم للحصول على لقب «النبلاء«، ليوضح حجم تبرعاتهم. وعلى الرغم من قيام الشرطة باستجواب ما يزيد على تسعين فردًا، من أبرزهم: - رئيس الوزراء السابق «توني بلير«، مستشارة الحكومة البريطانية للشؤون السياسية «روث تيرنر«، «اللورد ليفي« رئيس لجنة التبرعات في الحزب، وزير الدولة البريطاني للعلوم والابتكار «ديفيد سينسبيري« الذي قدم استقالته في 10 نوفمبر 2006، «كريتسفر إيفانز« أحد رجال الأعمال الذي أقرض الحزب مليون جنيه إسترليني لخوض الانتخابات العامة الأخيرة - فإن القضية مازالت رهن التحقيق، حتى بعد خروج «بلير« من الوزارة، ليتحمل «براون« تبعاتها. وقد جاء إقرار «ديفيد إبراهامز« - مقاول عقارات - في الخامس والعشرين من نوفمبر الماضي بأنه «استخدم أصدقاء وزملاء له لمنح مبالغ كبيرة لحزب العمال على مدار أربع سنوات من أجل تجنب أن يُعرف أنه هو المانح«، ليضيف حلقة جديدة في مسلسل الفضائح المالية حول تبرعات حزب العمال، فقد أقر «إبراهامز« بأن تلك الأموال والبالغة منذ 2003 حتى الآن ما يزيد على 600.000 جنيه استرلينى (2.1 مليون $) جاءت في شكل تبرعات عامة لحزب العمال، واستخدم بعضها لدعم حملة أحد المترشحين لمنصب نائب زعيم الحزب، حيث قدمت «جانيت كيد« سكرتيرته الخاصة نيابة عنه ما مقداره «5000 جنيه إسترليني« ل «هاريت هارمان« لمساعدتها على دفع ديون حملتها الانتخابية. وعلى الرغم من هذا الإقرار الصريح الذي قدمه «إبراهامز«، والذي اعترف فيه بأنه «كان يفعل ذلك بحسن نية وأنه لم يكن يدرك أنه يفعل شيئًا خاطئًا.. وعندما اكتشف الخطأ أبلغ على الفور أعضاء اللجنة الوطنية التنفيذية لحزب العمال«، فقد جاءت ردود الأفعال من جانب أعضاء الحزب لتتراوح ما بين الإقرار مع الادعاء بحسن النية، وبين النفي، ففي الوقت الذي أقرت فيه «هارمان« بأنها تصرفت بحسن نية، وأنها لم تخالف القوانين التي تطالبها بتحديد المتبرعين، وذلك بتحديدها مصدر هذا التبرع والمتمثل في «كيد« باعتبارها متبرعة سابقة للحزب ومقيدة في السجل الانتخابي، ولذا فهي لم تخالف قوانين الأحزاب السياسية. على الجانب الآخر، جاء موقف رئيس الوزراء «براون« الذي نفى علمه بمثل هذه التبرعات؛ حيث أصر على أنه لم يكن يعلم شيئًا عن تلك «الترتيبات المعقدة« على حد وصفه، وهو ما يذكرنا بموقف سلفه «بلير« في صفقة «القروض مقابل الألقاب«، التي أنكر علمه بها، إلا أن التحريات أكدت حينها علمه بها، وهو المنتظر أن يتحقق مع «براون« أيضًا، إذ يأتي نفيه على الرغم من علم «بيتر وات« الأمين العام للحزب الذي استقال عقب كشف فضيحة القروض مقابل الألقاب في 3/9/2007 معلنًا وبنفسه «انه يتحمل المسئولية كاملة.. وأنه لم يسجل بشكل صحيح هبة قُدمت للحزب بقيمة 600 ألف يورو«، وكذلك علم «جن ميندلسون« الذي عينه «براون« رئيسًا لتمويلات الحزب خلفًا ل «ليفي«، بل الأكثر غرابة من ذلك رفضت «كريس ليسلي« مسؤولة حملة «براون« أثناء ترشحه لزعامة حزب العمال، قبول تبرع من «كيد« سكرتيرة «إبراهامز« واقترحت أن يتم منحه إلى «هارمان« مترشحة نائب الرئيس لتمويل حملتها الانتخابية. وبعيدًا عن علم «براون« أو عدم علمه، يثار التساؤل حول المسؤولية الملقاة على عاتقه في هذا الصدد. والحقيقة، انه من الصعوبة بمكان إيجاد أسس يصبح «براون« على إثرها شخصًا مسؤولاً عن فوضى التمويل داخل حزبه، ولكن هذا لا يعني أنه بريء، فلا شك أن وجوده على رأس الحزب يحمله مسئولية مباشرة عن متابعة ما يجري فيه من ناحية، ومن ناحية أخرى يتحمل «براون« جزءًا من المسئولية بمشاركته من قبل في صدور قانون الانتخابات والاستفتاءات عام 2000، الذي يشترط أن «تكون الهدايا المقدمة للأحزاب السياسية ذات مبالغ معتدلة، وتكون معلنة تمامًا، وبالتالي فإن أي تبرعات يقوم بها طرف ثالث تكون غير قانونية ما لم يتم إعلان الشخص الذي وراء هذه التبرعات أو يكون هناك عذر منطقي، كما يجب تسجيله في اللجنة الانتخابية«، فلا شك أن الهدف الأساسي من صدور هذا النص - آنذاك - هو سعي «حزب العمال« إلى جعل التبرعات أكثر صعوبة على المحافظين، فالشرط الرئيسي في تحديد من يمنح 5000 إسترلينى أو يزيد يهدف إلى إثباط عزيمة الأثرياء من التبرع بالأموال للمحافظين، ومع ذلك لم يتبد للمسؤولين في حزب العمال أن هذا القانون سيطبق عليهم أيضًا، بل اعتقدوا - خطأ - أن النص قاصر على المحافظين من دون العمال. ولكن على الرغم من نفي «براون« علمه بتلك التجاوزات والمخالفات كما أشرنا سابقا، فإنه أقر بأنه «طالما لم يتم إعلانها بشكل قانوني، فيجب أن تعاد إلى مانحيها مرة أخرى«، محاولاً بذلك وضع نهاية سريعة لفضيحة ربما تعصف بمستقبله السياسي على غرار ما حدث مع سلفه، ومحاولاً كذلك الدفاع عن حزبه من خلال الدعوة إلى إصلاح كامل لنظام تمويل الحزب، وذلك بتعيين كل من القاضي «ماكلوسكي«، وكبير أساقفة أكسفورد السابق اللورد «هاريس« لإسداء المشورة والنصح في التغييرات المطلوبة في نظام قبول التبرعات المالية للأحزاب. وعلى هذا.. يمكن القول: إن مستقبل «براون« أصبح على المحك في ضوء ما يواجهه هو وحزبه من كوارث وإخفاقات منيا بها في كثير من القضايا، فإنه وإن تمكن عقب توليه منصبه من تحقيق نجاح ملموس على صعيد إحباط العمليات الإرهابية، ومعالجة أسوأ فيضانات شهدتها بريطانيا منذ عقود، ومواجهة انتشار مرض الحمى القلاعية إلا أنه سرعان ما واجهته مجموعة من الأحداث قوضت من كفاءته وسمعته، بما فيها أزمة بنك «نورتيرن روك«، وفقد وزارة الداخلية سجلات الإعانة ل 25 مليون طفل، ومن قبلها قراره التراجع عن الدعوة لانتخابات مبكرة، وتأتي تلك الفضيحة لتسكب مزيدًا من الزيت على النار، ليتغير التفاؤل المبكر الذي صاحب توليه السلطة، وليبدأ عداد التنازل في رصيده السياسي لصالح المحافظين الذين لا يسعهم تصديق حظهم، ففي أقل من ثمانية أشهر، كان المحافظون يتراجعون في استطلاعات الرأي العام مع تقدم العمال بفارق 11 نقطة، ليأتي آخر استطلاع للرأي نشرته صحيفة «صنداي تلجراف« والمعد من قبل معهد «إي سي إم« في أكتوبر الماضي (2007) أي قبل كشف تلك الفضيحة، ليوضح تراجع شعبية حزب العمال وتقدم المحافظين عليه بسبع نقاط، واستنادًا إلى هذا الاستطلاع، حصل حزب المحافظين على 43% من الأصوات، والعمال على 36%، والليبراليون الديمقراطيون على 14%، وتعد هذه النتيجة من أفضل النتائج التي يسجلها المحافظون منذ عام 1992 حينما كان «جون ميجور« رئيسًا للوزراء، وينتظر في ضوء هذه الفضيحة الأخيرة أن يزداد تراجع الحزب أكثر من ذلك في أي استطلاع للرأي يتم إجراؤه. وما يلفت الانتباه في هذا الأمر، موقف حزب المحافظين، فرغم ما يعتبره المحافظون ردًا ملائمًا للطريقة التي استغل بها حزب العمال مثل هذا الخلل لإسقاط حكومة «ميجور« في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، فإنه لم يكن للمحافظين رد فعل قوي خاصة تجاه تلك الفضيحة؛ حيث اقتصر على مجرد تصريح لرئيس الحزب «ديفيد كاميرون« اتهم فيه «براون« بالكذب بشأن تلك القضية، وأنه «لا يصلح لوظيفته«، وهو ما يُفسره البعض في ضوء ما يعانيه المحافظون أيضًا، فقد كشف المراقبون أن الأمر لا يقتصر على حزب العمال فحسب، بل يمتد إلى حزب المحافظين؛ إذ تم تسجيل حالات فساد مماثلة، منها منح «اللورد كالمز« حزب المحافظين 3000 جنيه إسترليني قبل شهر من نشر قائمة اللوردات العاملين مع الحزب، حيث منح الحزب 500.000 جنيه إسترليني نقدًا و 100.000 جنيه إسترليني عينًا منذ عام 2001، كما منح «اللورد ستاينزج إيفا« حزب المحافظين 6000 جنيه إسترليني بعد ثلاثة أسابيع من حصوله على لقبه، إلى جانب تقديمه تبرعات عامة للحزب منذ عام 2001، قُدرت إجماليًا بنحو 21000 جنيه نقدًا وعينًا، وهو ما دفع البعض إلى المطالبة بإصدار حزب المحافظين قائمة بأسماء رجال الأعمال الذين مولوا الحملات الانتخابية على غرار ما قام به حزب العمال. نخلص من ذلك إلى القول: - إنه إذا كانت تلك الفضيحة تمثل حلقة أو إضافة إلى حلقات أخرى كشفت عن مسلسل متكامل من الإخفاقات التي يعيشها حزب العمال في عهد «براون«، إلا أن العذر الوحيد الذي يمكن أن يستتر وراءه رئيس الوزراء، أنه ورث هذه المشكلات والإخفاقات عن سلفه «بلير«، بما يؤكد أنه إن أراد أن ينفض عن نفسه عباءة «بلير« فلن يستطيع، نظرًا لثقل الإرث وجسامته سواء على مستوى السياسات الداخلية أو الخارجية، بل على المستوى الحزبي ذاته.