اكتسبت جولة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الخليجية، والتي شملت السعودية وقطر والإمارات، أهمية خاصة، من منظور أنها تزامنت مع جولة بوش في المكان والزمان نفسه، كما أنها الأولى له لمنطقة الخليج منذ وصوله إلى سدة الحكم في مايو الماضي، من دون أن تبدو سابقة في تاريخ علاقات فرنسا بدول تشكل عصب السياسات النفطية الدولية، وفي سياق المسعى الفرنسي، قدر الإمكان التموضع في هذه المنطقة المؤثرة للغاية في بعض ملفاتها، على الرغم من أن بلاده لم تكن يوماً بعيدة عن محاولة رسم علاقات متميزة مع دول المنطقة للعديد من الاعتبارات الاقتصادية والسياسية والجيو سياسية، والحرص على استمرارية ما كرسته فرنسا في سياستها الخارجية على قاعدة التوازي والتوازن مع ما يمكن أن ترسمه بعض القوى الفاعلة في النظام العالمي، ومنها الولاياتالمتحدة. تأتي جولة ساركوزي تتويجا للتطور النوعي وللعلاقة المميزة والاستراتيجية، وإعطائها المحتوى الإضافي وتقوية الحوار السياسي الوثيق، خصوصاً بالنسبة للمشاكل الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، والتأكيد مجدداً على صداقة فرنسا وهذه البلدان التي تقع في قلب منطقة النمو الاقتصادي، وفي الوقت ذاته، تقع في قلب “قوس الأزمات”، الممتد من الخليج إلى البحر الأبيض المتوسط، بما يشمل الموضوع النووي الإيراني والعراق ولبنان وفلسطين وغيرها. ويتبدى حرص ساركوزي على تجنب الخوض في الموضوعات المثيرة للجدل التي أثارها الرئيس بوش خلال جولته، وبالأخص الوضع مع إيران، والعلاقات الخليجية الإيرانية، لفهمه المسبق لرؤى هذه الدول في رفض أي عمل عسكري يوجه ضد إيران، وتحبيذ اتخاذ مواقف دبلوماسية تجاه ملفها النووي، ومن ثم عدم تبني مواقف سياسية مؤيدة للتصعيد الأمريكي، والتعرف عن قرب للطرح الخليجي الذي يحرص على تعزيز العلاقات مع إيران وعلى تسوية الخلافات القائمة بين الولاياتالمتحدة وهذا البلد الجار عبر الحوار والوسائل السلمية. ويمكن رصد غلبة الطابع التجاري والاقتصادي على هذه الجولة، حيث يسعى ساركوزي إلى تأمين حصة بلاده في “كعكة” الاقتصادات الخليجية التي تشهد فورة اقتصادية وتملك سيولة مالية ضخمة جنتها من أسعار النفط المرتفعة، آملاً حصد صفقات وعقود اقتصادية وعسكرية ونووية تتجاوز 45 مليار يورو، يمكن أن تحدث توازنات مالية واستراتيجية، في ضوء الحذر المتصاعد تجاه واشنطن من جانب بعض حكومات المنطقة التي أصبحت تسعى لتنويع وموازنة علاقاتها الخارجية ومصالحها بحيث لا تبقى رهينة للبيت الأبيض. وعليه، تبرز دلالة حرصه على أن يرافقه وفد رفيع المستوى يضم عدداً من الوزراء وعشرات من رجال الأعمال ورؤساء الشركات الفرنسية الكبرى التي تأمل في الحصول على عقود تجارية ضخمة في مجالات الطاقة والنقل البري والجوي المدني وفي قطاع المياه والكهرباء والأمن الداخلي والتسلح، وتعزيز نشاطها وفاعليتها. وعلى خلفية الارتقاء بالعلاقات الاقتصادية المميزة مع هذه البلدان إلى شراكة اقتصادية استراتيجية، حرص ساركوزي في محطته الأولى، السعودية، أكبر دولة مصدرة للنفط عالمياً، وأهم الشركاء التجاريين، والتي ترتبط مع فرنسا بعلاقات سياسية مميزة، على تعزيز العلاقات الثنائية والروابط المشتركة المتينة الضاربة في أعماق الماضي، والمشاركة في المشاريع الكبرى التي تنفذها المملكة والتي تقدر قيمتها بنحو 500 مليار$ للسنوات العشرين المقبلة، تخص قطارات عالية السرعة، مثل مشروع السكك الحديدية الذي يربط جنوب المملكة بشمالها، النقل الجوي والمصافي النفطية الجديدة في مدينتي الجبيل وينبع، والتنمية الحضرية في مدينة الملك عبدالله الاقتصادية، ومشاريع تحلية مياه البحر، ومشروعات توليد الطاقة، والمشاريع التعليمية الضخمة بالتعاون في مجالي التدريب التقني والتعليم الجامعي. وعملياً، تم التوقيع على أربع اتفاقيات تعاون في مجالات الطاقة والنفط والغاز والثروات المعدنية، والإعداد الجامعي وتطوير التدريب المهني في فرنسا، وبحث مشاريع عقود تصل إلى 40 مليار يورو، خاصة في المجال العسكري، ومع سعي المملكة تنويع مصادر السلاح والتكنولوجيا العسكرية، مثل الإنتاج المشترك لدبابات لوكلير الفرنسية، وتسويق الطائرات الفرنسية المقاتلة من طراز “رافال”، وتدريب الضباط السعوديين في فرنسا، وملفات تتعلق بمعدات دفاعية مهمة، والتعاون في القيام بمناورات عسكرية مشتركة. ومما له صلة، تؤكد الشركات الفرنسية مدى قدرتها على الاستجابة لتطلعات المملكة في كافة هذه المجالات، خاصة امتلاكها للتقنية المعلوماتية، وتأمل في الاستفادة من كون المملكة أضحت وجهة عالمية للاستثمارات الكبرى نتيجة المناخات الاستثمارية الجديدة، وتمثل سوقاً مغرية للشركات العالمية. ومثلت قطر، الشريك الاستراتيجي لفرنسا نظراً لتمركز كبريات الشركات الفرنسية فيها منذ زمن بعيد، المحطة الثانية في جولة ساركوزي، وتربطها معها معاهدة للتعاون الاقتصادي والمالي، كما شهدت العلاقات الاقتصادية المشتركة قفزة نوعية مع توقيع عقود تقارب 6 مليارات $ عام ،2005 وأخرى بسبعة مليارات دولار عام ،2006 وذلك من دون احتساب قطاع الطيران. وتأتي فرنسا من بين البلدان الأوائل من ناحية الاستثمارات في قطر. ويعتبر مشروع “دولفين” الذي تسهم فيه شركة توتال الفرنسية بنسبة 25%، وتستثمر 4،2 مليار $ المشروع المشترك الأبرز. كما أن هناك العديد من الشركات الفرنسية العاملة في تنمية وتطوير الشركات الصناعية وفي مجال الغاز، ومنها توتال، وتتولى شركة vinci القيام ببناء أكبر جسر في العالم، 42 كم، يربط بين قطر والبحرين، وتعمل شركة techinip في بناء البنى التحتية. وقد أبرمت شركة الخطوط الجوية القطرية عقوداً مع شركة إيرباص وذلك منذ عام ،2003 وصلت إلى مليار و500 مليون $، وفي العام المنصرم، وصلت قيمة العقود إلى أكثر من 18 مليار يورو. وتمخضت الزيارة عن توقيع عدة مذكرات تفاهم واتفاقات، من بينها مذكرة تفاهم بين شركة “غاز دي فرانس” ومؤسسة قطر للبترول، حيث ستفتتح الشركة الفرنسية مكتباً تمثيلياً لها في قطر، وتنوي الدخول مع مؤسسة قطر للبترول في شراكة للتعاون الخارجي في ميادين التنقيب والاستثمار للطاقة. وتؤمن فرنسا 80% من تجهيزات القوات المسلحة القطرية، على الرغم من التحالف بين الدوحةوواشنطن، وستفتح مدرسة سان سير العسكرية العريقة فرعاً لها في قطر اعتباراً من 2011. وكانت دولة الإمارات المحطة الأخيرة في هذه الجولة، حيث تصدرت العقود في مجال البرامج النووية السلمية، وهي سياسات مستجدة بشكل عام في الخطاب السياسي لدول مجلس التعاون الخليجي بعد التطورات المتصاعدة التي اتخذها ملف البرنامج النووي الإيراني الذي تحاول فرنسا التقرب منه والتماس معه. وفعلياً، تم توقيع اتفاق حول تطور استخدام الطاقة النووية السلمية في الإمارات، في قطاعات البحث العلمي والطب والزراعة وتحلية مياه البحر، بقيمة نحو 4 مليارات دولار. كما اطلع ساركوزي على مشروع متحف “لوفر الرمال” في أبوظبي الذي تقوم بلاده بتنفيذه لمدة 30 عاماً مقابل مليار يورو، وحضر وضع حجر الأساس للمقر الدائم لجامعة السوربون فيها. وعلى صعيد الاتفاق الدفاعي الموقع عام ،1995 تم تمديد الاتفاقية. كما تم التوقيع على ثلاث اتفاقيات تفاهم حول الملكية الفكرية والنقل والتعليم ومشاريع عقود ممكنة قيمتها 14 مليار يورو. والقول الخاتم، إن الطابع الاقتصادي المستهدف لمساعدة الاقتصاد الفرنسي المتعثر في الآونة الأخيرة، والذي يعاني من بطء في النمو ومن معدلات البطالة قد غلب على هذه الجولة، ومحاولته إعطاء قيادته صورة جديدة وكسب ود القيادات الخليجية.