توحي لي تفاصيل حفل تنصيب المشير عبدالفتاح السيسي رئيساً لمصر، والذي حضره مسؤولون عرب وأجانب، بشيئين اثنين: الأول أن اختياره سيكون مصلحة للمصريين؛ شعباً ودولة؛ من ناحية كونه دخل الانتخابات الرئاسية من دون أن يكون منتمياً إلى حزب سياسي، وهذا أمر مهم في هذه اللحظة من تاريخ مصر. في هذه الحالة هو هنا يمثل كل الشعب المصري، بدياناته وشرائحه المجتمعية، ولو نظرنا إلى حجم احتفالات الشعب المصري وطريقة التعبير بها فهو بمنزلة استفتاء لمدى رغبتهم في أن يكون السيسي رئيساً لبلادهم. أظن أن هذه ميزة تحسب له وتؤكد أن «شرعيته الشعبية» أقوى، وبالتالي تعطيه صلاحيات أكبر لأن يتحرك بفاعلية لإعادة ترتيب «البيت المصري». وفي العرف السياسي؛ الشرعية الشعبية أقوى من أي شرعية أخرى بما فيها الشرعية الدستورية؛ الأولى تفويض مباشر، والثانية حق دستوري يبقى محدوداً. الشيء الثاني؛ الذي توحي لنا به تفاصيل حفل تنصيب السيسي؛ أن هناك رغبة من حكومات الدول العربية ومن شعوبها في أهمية استعادة دور مصر؛ الدولة العربية «القائدة في المنطقة» بكل ثقلها ووزنها السياسي، وتفادي تحقيق طموحات إقليمية وربما دولية بمساعدة من جماعة «الإخوان المسلمين» بسقوطها أو إضعافها. وقد تجلّت هذه الرغبة في «نوعية» من حضر الحفل. هناك استيعاب عربي بأهمية عودة الاستقرار في مصر تحديداً من بين الدول العربية التي أصابها ما يعرف ب«الربيع العربي»، على الأقل في هذه اللحظة. هناك إدراك بوجود من يعمل سعياً لإضعافها، وبالتالي ينبغي التعاون معها لمصلحة العرب جميعاً. ومع أن الدعمين السياسي والمادي بدآ من السعودية والإمارات، فإن الأمر بعد الانتخابات حوّله العاهل السعودي، الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، ليشمل أغلب الدول العربية؛ وهو أقرب، حسب وصف بعض المراقبين، إلى مشروع مارشال في إنقاذ ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وبكلام أوضح، فإن ما نراه أقرب لأن يكون رغبة مصرية وعربية لاستعادة «هيبة الدولة المصرية»؛ بعدما واجهت العديد من التحديات الأمنية والسياسية التي هددت استقرار البلاد، ومثلت عامل قلق لكل المصريين في الداخل والخارج من أن تتحول إلى فوضى تبدأ في مصر وتنتشر في كل الدول العربية. الحالة الأمنية في سيناء وأبعاد ما حدث فيها خير مثال. وكذلك محاولات «الإخوان» بعث الرعب بين المواطنين من خلال أعمال الشغب في الحرم الجامعي أو من خلال التفجيرات وعمليات الاغتيال لرجال الأمن. أما على المستوى الإقليمي فإن المنطقة العربية بأكملها باتت «شبه مطوقة» من إيران من خلال زرع خلاياها على أطراف المنطقة العربية: «حزب الله» في لبنان، والحوثيون في اليمن، ونشاطها السياسي داخل العراق، ودعم أعمال الشغب في البحرين، ومساعدة نظام بشار الأسد ضد شعبه. يحدث هذا كله في ظل غياب كامل للتدابير من جانب الدول العربية لوضع حد للأخطار المذكورة. بل المشكلة الكبرى تتمثل في وجود بعض الدول العربية التي تعمل على إضعاف الموقف العربي. وكان يفترض أثناء حدوث حالة «الفوضى العربية» أن تملأ الفراغَ السياسي والأمني (الذي أحدثه سقوط أنظمة سياسية عربية) دولُ مجلس التعاون لدول الخليج العربية باعتبارها التكتل العربي السياسي والاقتصادي الأقوى في تلك اللحظة؛ لكن وجود اختلافات في مواقف أعضائه من حيث مدى الالتزام بالبحث عن «المصلحة الخليجية» جعل الأمر أكثر خطورة، الأمر الذي تطلب أن تقوم السعودية والإمارات بمفردهما بقيادة أمر إعادة الاستقرار في المنطقة من خلال دعم مصر والعمل على تنشيط دورها لملء الفراغ السياسي بعدما اتضحت النيات الحقيقية لبعض الدول. وبالتالي فإن الحضور الرسمي العربي والخليجي تحديداً في هذا الحفل هو من أجل استكمال الدعم الخليجي لمصر. اليوم نحن أمام منعطف عربي تاريخي جديد في ناحية العمل العربي المشترك يوحي بزيادة حجم التعاون، من ناحية، لأن هناك رؤية تتفق عليها أغلب الدول العربية في مواجهة التحديات الداخلية والإقليمية، ألا وهي «الرهان على مصر» في عودة كل شيء إلى طبيعته، لكن ذلك مرتبط بمساعدة مصر أولا على النهوض. الكثيرون يعتقدون أن هذه العودة العربية المتوقعة تقتضي وجود شخصية قيادية تستطيع جمع المصريين حولها، وربما السيسي هو الأنسب لمصر وللعرب، حيث يجتمع أغلب المصريين حوله، فقد حصل على نسبة 96.9 في المئة من أصوات الناخبين، والعرب يجمعون على أنه رجل المرحلة. أما من الناحية الثانية؛ فإن مصر دائماً هي المؤشر الذي يمكن من خلاله قراءة سير الأحداث العربية، وهذا الأمر يدركه الغرب كثيراً، لذلك تبدأ تحركاتهم السياسية في أمور المنطقة من خلال مصر، وهذا ما يفسر الموقف الغربي من دعمها ضد الفوضى العربية، كما تدركه تركياوإيران وإسرائيل ودول الجوار العربي. وبالتالي فإن عودة الاستقرار في مصر ونجاح الرئيس الجديد في إعادة «هيبة الدولة» سيكون عاملاً مهماً في التأثير في باقي الدول العربية. وعودة الدولة المصرية إلى ممارسة دورها السيادي على الخارجين عليها؛ في الداخل والخارج؛ هي الأهم في هذه المرحلة لأنها تعني عودة الأمن والاستقرار، وهما عاملان مهمان لأي عملية تنموية. وبما أن الصفة الغالبة حالياً على الدول العربية هي «الفوضى»، كما هو الحال مثلا في ليبيا التي يكاد يكون اختطاف المسؤولين فيها ممارسة «صبيانية» يومية، فإن استقرار مصر أولا، ومن ثم سيأتي الاستقرار إلى الدول الأخرى. فهيبة الدول العربية وقوتها تبدأ بقوة مصر، هذه مقولة لا أحد يختلف عليها سوى في طريقة التعبير عنها. يأمل الكثير من الناس في مصر وفي باقي الدول العربية أن يكون تنصيب السيسي بداية لضبط إيقاع أخطر اضطرابات تمر على الدول العربية، وأن تكون المرحلة المقبلة بمنزلة قاطرة التحول نحو العمل العربي المشترك المفقود منذ زمن طويل نتيجة لتفضيل المصالح الفردية على الإجماع العربي. نقلا عن صحيفة الاتحاد