مشكلة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية مع روسيا هذه الأيام باتت مشكلة مضاعفة. فمن جانب كُتب عليهما التعامل مع الخلافات الاستراتيجية على المستوى السياسي مع روسيا، لاسيما في سورياوأوكرانيا. ومن جانب آخر, فُرض عليهما أن يتعرفا إعلى تصرفات فلاديمير بوتين، الشخصية الغامضة في قراراتها، حتى باتت تلك القرارات تمثل مفاجأة غير متوقعة لهم. آخر تلك المفاجآت وأقواها كانت تهديداته، بداية هذا الأسبوع، بقطع الغاز الروسي عن دول أوروبية، بعضها يصل اعتمادها عليه إلى نحو 32 في المئة من حاجتها، مثل ألمانيا، وبعضها إلى نحو 72 في المئة مثل بولندا. مثل هذا التهديد يجعل أوروبا أسيرة لروسيا ولبوتين، وحتى لو طمأنها بوتين لاحقاً بأنه ملتزم باتفاقيات تزويد الغرب بالغاز، فإن تهديده يعني أن الأمر قابل للتنفيذ عند الضرورة. وكذلك طلب بوتين تدخل الدول الأوروبية لإقناع أوكرانيا بدفع الأموال المُستحقة لروسيا لديها، وإلا فإن المقابل هو قطع الغاز الروسي عنها. ومعروف أن أوكرانيا لا تمتلك أي مصادر للطاقة غير الغاز الروسي، الأمر الذي يعني أنه شريان حياة بالنسبة إليها. ويتضح من لغة بوتين أنه مستعد لتصعيد حالة التوتر مع الغرب إلى أقصى الدرجات، مع أنه يحاول طمأنة الغرب في الجانب المقابل، وهي إشارة إلى معنيين: إدراكه حاجة الغرب إلى الغاز الروسي، وعدم تراجعه عن مواقفه السياسية. بات من الصعب على مراقبي العالم الفصل بين بوتين -الرجل الأول في روسيا- وسياسة روسيا كدولة عظمى في العالم. وفي استدعاء للمقولة التاريخية للملك لويس الرابع عشر: «أنا الدولة والدولة أنا»، يكرر قيصر روسيا المعنى ذاته، فنجد وسائل الإعلام العالمية تربط بين روسيا وبوتين بشكل اعتيادي، وكأن العداوة مع بوتين هي الأساس وليس التنافس الاستراتيجي العالمي مع روسيا. والواقع أن هذا الخلط أو الربط اللافت يكاد لا يوجد في عالم اليوم سوى مع بوتين وروسيا فقط. ولو تتبعنا تفاصيل أفعال روسيا وبوتين، لوجدنا أن هناك ما يبرر الربط بينهما، فكلاهما عائد للسياسة الدولية بقوة، وهذه إحدى الملاحظات التي يمكن تسجيلها من جانب أي مراقب، كما أنهما يمثلان قوة في الإعلام العالمي نتيجة لحضورهما في العديد من الملفات العالمية حيث يحققان مكاسب ملحوظة. عوَّدنا بوتين منذ فترة على استعراض جسمه الرياضي ومصارعاته مع الحيوانات المفترسة، خاصة أثناء أزمات سياسية معينة مع الغرب، وعودنا على قوة تحمله للطقس البارد، في إشارة موجهة للغرب، فحواها أنه شخص يمثل قوة في العالم. روسيا الدولة بدأت تعود بقوة -وإنْ بهدوء- إلى مناطق نفوذها في العالم، سواء في منطقة الشرق الأوسط، مثل حالتي سوريا وإيران، أو في دول آسيا الوسطى، حيث منطقة نفوذها في الاستراتيجية العالمية. وبالطبع، فإن هذا الأمر يقلق الغرب، خاصة أن السياسة الروسية لم تعد تتخلى عن ملفاتها بسهولة، كما حدث في عهدي جورباتشوف ويلتسين، أو حتى في النقاط التي تصلها مثلما حصل في شبه جزيرة القرم. المحللون السياسيون في العالم يعتقدون أن الظهور الإعلامي لبوتين في وضعيات معينة، وكذلك إظهار روسيا بمواقفها المتشددة في وسائل الإعلام العالمية التي تتضح أكثر من خلال قناتها «روسيا اليوم»، إنما هو نوع من التفاوض الإعلامي والسياسي مع الغرب، ويجدون أن تلك الوسيلة نجحت حتى الآن في تحقيق الكثير من المكاسب السياسية لبوتين وروسيا. وتُستخدم هذه الأداة الدبلوماسية عن طريق وسائل الإعلام الروسية التي تنقل تهديداً مبطناً للغرب، ويكون لها أحياناً تأثير إيجابي لصالح الرئيس الروسي في الداخل، بما يناله من شعبية كبيرة لدى الناس. الأميركيون في ظل هذه الحالة الإعلامية استدعوا المقولة التاريخية بأنه لا يمكن فهم روسيا بالعقل أو المنطق؛ ولذا فقد اتجهوا إلى فهم بوتين وروسيا من خلال «لغة جسد» الرئيس، وبالتالي فقد طالب وزير الدفاع الأميركي، تشاك هاجل، بمراقبة سلوكيات بوتين -خاصة خلال الأزمات السياسية- لمعرفة القرارات التي يمكن أن تصدر عنه. حالة الغضب الروسي من الغرب لا يمكن الاطمئنان إليها، وبالتالي فإن تخصيص فريق استخباراتي لفهم لغة الجسد لدى بوتين كان هو البديل. فالغرب يسعى جاهداً لفهم بوتين الذي أثبتت الأيام أنه يحقق نجاحاً تلو الآخر دون أي تراجع. وتفيد مراجعة مواقف بوتين وروسيا الاتحادية، بأنهما يحققان ما يريدانه من الغرب، إذ استطاع بوتين إقناع نظيره الأميركي أوباما بعدم ضرب سوريا، مع أن قرار الضربة كان جاهزاً والعالم ينتظره. كما أن نتيجة استفتاء استرجاع القرم أجبر العالم على الرضوخ للقرار الروسي بضم شبه الجزيرة، دون أن يفعل شيئاً سوى إطلاق التهديدات في وسائل الإعلام. واليوم يهدد بوتين الدول الأوروبية بقطع إمدادات الغاز ويلوح بالبديل الجاهز له، ويدرك أن الغرب لن يفعل شيئاً لأنه اختبره في أكثر من موقف. إن تقييم استراتيجية بوتين لدى كل المراقبين، يفيد بأنه نجح في استعادة هيبة روسيا في السياسة الدولية بطريقة سهلة ودون متاعب بسبب تراجع الدور الأميركي. وبالتالي يكون طبيعياً أن يلفت بوتين أنظار العالم ومعه روسيا. وأنه استطاع أن يمحو من أذهان المراقبين الصورة النمطية للدولة الروسية والإنسان الروسي الغارق في مشكلاته الاجتماعية، والباحث عن حل لها من خلال شرب «الفودكا». باختصار: صنع بوتين لنفسه ولدولته صورة مهيبة، تجعلها تمثل تهديداً للأمن الداخلي للآخرين. لا يمكننا معرفة النتيجة النهائية للخلافات السياسية بين الغرب وروسيا بدون الانتظار إلى نهاية الأزمة، التي تثبت الأيام أنها في تصاعد مستمر، أو بفهم «لغة جسد بوتين» الذي أتعب السياسيين والمراقبين في العالم. نقلا عن صحيفة الاتحاد