نقلا عن جريدة عكاظ 30/8/07 أخيراً وصل الإسلاميون إلى السلطة في تركيا، بعد أكثر من ثمانية عقود لعهدٍ أسس شرعيته السياسية بعيداً عن جذور مجتمعه وثقافته وخلفيته التاريخية الإسلامية. لقد أراد مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة أن تنسلخ تركيا عن جذورها الإسلامية وتلتحق بثقافة أوربا العلمانية، بكل جفائها لما هو ديني تجاه العملية السياسية ليأتي الشعب التركي المسلم بعد أكثر من ثمانية عقود ليؤكد خلفيته الإسلامية لهويته السياسية الوطنية من خلال الممارسة الديموقراطية السلمية في تناقض ملفت لأساسيات النظرية السياسية الغربية التي تقوم على فرضية الفصل التام بين الدين والسياسة، بعيداً عن أي شبهة لتأسيس الممارسة السياسية وشرعية النظام السياسي على مرجعية فكرية دينية. لم تفلح ضغوط الجيش ولا جهود التيارات العلمانية في تركيا منع هذا الزخم الشعبي تجاه الخيار الإسلامي الذي يمثله حزب العدالة والتنمية. لقد تمكن هذا الحزب، من خلال خطابه السياسي الديني، أن يسيطر على أهم سلطتين رسميتين في النظام السياسي التركي: مؤسستا البرلمان (التشريعية) والسلطة التنفيذية بجناحيها الحكومة والرئاسة، معاً. عبدالله غُول الذي تسلم مهام منصبه كرئيس جديد لتركيا، هو بغض النظر عن ما قاله من تطمينات تجاه التزامه بالقيم العلمانية للنظام السياسي التركي وإخلاصه له، إلا أنه في حقيقة الأمر هو والحكومة التي يرأسها رئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردغان جاءا على واجهة السلطة في تركيا عن طريق الإرادة السياسية المباشرة والصريحة للشعب التركي الذي عبر عن رغبة شديدة وجامحة في التغيير والإصلاح السياسي في تركيا. طبقاً للقيم التي يؤمن بها الحزب، التي تركز على التراث الديني الإسلامي الذي يعكس ضمير وتوجه الشعب التركي، على أعتاب القرن الواحد والعشرين. للعلمانيين والجيش أن يتوجسوا خيفة من مجيء عبدالله غُول إلى سُدَة الرئاسة في تركيا.. ومن وجود رجب طيب أردغان على سُدة الحكومة في أنقرة.. ومن تمتع حزب العدالة والتنمية بالأغلبية المطلقة في البرلمان. باختصار: مفاتيح ممارسة السلطة في أنقرة أضحت في قبضة الإسلاميين، ليكتفي العلمانيون بالمعارضة، دون أي أمل حقيقي قريب باستعادة السلطة في أنقرة من حزب العدالة والتنمية، أو من خلال تدخل الجيش، الذي استنكف قادته حضور مراسيم تنصيب غُول..!!؟ بعد أن تمكنت الحكومة في الانتخابات التشريعية الماضية، التي كانت بالمناسبة استفتاء على برنامج حزب العدالة والتنمية السياسي وخلفيته الإسلامية، من السيطرة على البرلمان، فإن برنامج الحكومة الإصلاحي لن يواجه مشكلة تُذكر. أيضاً، بضمان مؤسسة الرئاسة في صف الحزب فإن الرئيس سوف يعمل جهده على دعم جهود الحكومة في البرلمان لتفعيل برنامج الحزب السياسي، عن طريق المصادقة على القوانين التي تمررها الأغلبية في البرلمان. الحزب، أيضاً عن طريق السيطرة على البرلمان وجناحي السلطة التنفيذية، باستطاعته أن يعيد تشكيل أجهزة الدولة البيروقراطية والعسكرية والتعليمية، بالطريقة التي تتماشى مع برنامجه الإصلاحي الطويل المدى. كل المناصب العليا في الدولة والجيش، تحتاج إلى تزكية البرلمان ومصادقة رئيس الجمهورية. مع الوقت سوف يفقد العلمانيون حصوناً منيعة لهم في النظام السياسي التركي شيدوها وتمترسوا فيها لفترة طويلة، لتتهاوى على يد الإسلاميين الجدد في حزب العدالة والتنمية. حتى على مستوى المؤسسة الرسمية الثالثة المهمة في النظام السياسي التركي، سوف يعمل الحزب على تغيير ملامح المؤسسة القضائية التركية، خاصةً على مستوى المحكمة الدستورية العليا لتصفيتها من رموز العلمانية فيها. الرئيس من سلطاته المصادقة على التعيينات القضائية العليا، وكذا إحالة عناصرها إلى التقاعد... وفي كل الأحوال تعمل مؤسسة الرئاسة كداعم قوي لنفوذ الحكومة وجهودها لتمرير برنامجها من خلال سيطرتها المطلقة على البرلمان. فوز الإسلاميين بالحكم من خلال مؤسسات وقيم الدولة العلمانية في تركيا، من شأنه أن يثري الفكر السياسي الإسلامي ويؤكد على فاعلية النظرية السياسية الإسلامية، التي يشكك الكثيرون في قدرتها على تفسير مستويات الحراك السياسي في المجتمعات الإسلامية.. وعلى ملاءمتها للممارسة الديموقراطية العصرية التي ترتكز أساساً على قيمة الإرادة العامة للناس وحصرية دور المواطن في اختيار رموز مؤسسات السلطة في المجتمع. ما يحصل في تركيا من مد للتوجهات الإسلامية وانحسار للتيارات العلمانية يعطي فُرصاً واعدة للتغيير والإصلاح السياسي في المجتمعات الإسلامية، بعيداً عن شبهة العصرنة الغربية. ما تطور في تركيا من انتصار للمد الإسلامي على حساب القيم العلمانية يؤكد أن الديموقراطية ممكنة في المجتمعات الإسلامية، بمواصفات محلية وبخيار وطني خالص، وليس عن طريق أي شكل من أشكال التدخل الخارجي، مهما خلصت نواياه، هذا إن كانت نواياه مخلصة، أصلاً.