البديهي أن فوز عبدالله جول الوجه المعتدل لحزب العدالة المنبثق من التيار الإسلامي والمشهود له بالدبلوماسي المحنك بمنصب رئيس تركيا وهيمنة حزبه علي مجمل السلطات سواء التنفيذية أو التشريعية. سينقل تركيا العلمانية إلي مرحلة جديدة ذات ملامح مختلفة علي الصعيدين الداخلي والخارجي لتوافر حالة الانسجام بين السلطات التنفيذية ممثلة في الحكومة والرئاسة. وهو أمر افتقدته حكومة العدالة علي مدار السنوات الخمس الماضية لاعتلاء قطب علماني أحمد نجدت سيزار لموقع الرئاسة مما أسهم بقدر كبير في ازدواجية التوجهات خاصة علي المسار الداخلي. وإذا كان عدد كبير من المراقبين يرون في وصول جول إلي المنصب الرئاسي انتصارا كبيرا للديمقراطية لاسيما في مواجهة الجيش الذي تسبب خلال ستة عقود من التعددية في سقوط أربع حكومات. إلا أن هذا لا يعني أن الصراع علي الصعيد الداخلي بين الاسلاميين والقوي العلمانية المدعومة من الجيش قد انتهي . وأن المؤشرات تؤكد أن فصلا جديدا من الحرب الباردة سيظهر جليا في الأيام القادمة في ظل حالة الاستقطاب التي يعيشها الشارع التركي اليوم. وستكون أولي مشاهده مضمون الدستور المدني الجديد الذي يعتزم حزب العدالة طرحه للاستفتاء نهاية الشهر المقبل لما يتضمنه من مواد اعتبرها البعض جرأة غير محسوبة لاقتحامه مناطق شائكة وحساسة لعل أبرزها السماح بإرتداء الحجاب في الجامعات وفتح الأبواب أمام تدريس اللغة التركية وإزالة آثار انقلاب1980 وذهابه في أهدافه العليا إلي تحديد دور المؤسسة العسكرية حارس النظام القائم. غير أن الأهم في هذا المقام يتمثل بطبيعة الحال في البحث عن إجابة محددة المعالم عن سؤال بات يطرح نفسه بقوة اليوم علي الساحة.. تري تركيا إلي أين؟ بعد وصول أول سياسي من خارج السرب العلماني الي سدة الرئاسة؟ وما هي مفردات الأجندة التي يحملها جول صاحب الماضي الاسلامي . المعروف داخليا وخارجيا في ظل حالة الانسجام بينه وبين حكومة يرأسها رفيقه رجب طيب أردوغان؟ وهل تفرض هيمنة حزب ذي جذور إسلامية علي مفاصل الحياة السياسية بكاملها العودة إلي حضارة إقرأ للقضاء علي أزمة الهوية التي عاشتها البلاد طويلا؟ ومن ثم هي أسئلة في مجملها تكاد تكون مشروعة لأن تركيا تمثل حالة متفردة في العالم بتطبيقها لمباديء علمانية في مجتمع98% من سكانه مسلمون . غير أن هذا يفرض علي المتابع للشأن العام التركي ضرورة التعرف علي طبيعة حزب العدالة الحاكم قبل الخوض في الإجابة علي ما سبق من أسئلة. فالحزب منذ بروزه ونجاحه الباهر في الانتخابات التشريعية كما يري الكاتب زهير الخويلدي وقدرته علي تصريف أمور الأمة التركية بكل اقتدار وتحقيقه لانجازات كبيرة في وقت قصير وقياسي وبرهانه أن توظيف الدين ليس دائما وأبدا يعتبر توظيفا رجعيا انتهازيا يتعارض مع المدنية والعصر بل يمكن أن يكون توظيفا تنويريا تأصيليا يقاوم الفساد ويغرس الرشاد لمجتمع يتطلع إلي النمو والرقي ويقضي علي التوتر والاضطراب. وإذا كان البعض منا يري أن وصول جول إلي الرئاسة يعني أن السياسة الخارجية لتركيا ستشهد تحولا جذريا بالارتماء في أحضان الشرق والاستغناء أو علي أقل تقدير الابتعاد عن الغرب المهم لهم علي مدار70 عاما مضت فهم علي خطأ إذ أن هذا الحزب منذ وصوله الي الحكم في عام2002 تبني النهج العلماني ودافع بكل ما أوتي من قوة عن الديمقراطية في تسيير شئون الحكم بل مارسها والتزم بها وآمن باستقلالية المؤسسات وما يثير الدهشة علي حد قول الخويلدي أن تركيا في ظل حزب العدالة انفتحت علي العالم شمالا وجنوبا وشرقا وغربا بل انتزعت في عام2005 موافقة المفوضية الأوروبية علي بدء إتمام مفاوضات من أجل إنضمامها إلي الاتحاد الأوروبي وهو الحلم الذي فشلت في تحقيقه كافة الحكومات العلمانية علي مدار40 عاما مضت وفي ذات الوقت ترأست هرم منظمة المؤتمر الإسلامي ولم تغب عن القمم الأخيرة التي نظمتها الجامعة العربية وبرهنت علي أنها دولة ذات سيادة عندما منعت الجيش الأمريكي من أن يستعمل أجواءها للعدوان علي العراق ولطفت صراعها مع اليونان بكل دبلوماسية ولم يبق أمامها سوي ثلاث مشكلات جوهرية علي الصعيد الخارجي تتمثل في القضية القبرصية وأزمة المنظمة الانفصالية وعناصر العمال الكردستاني الذين يتخذون من شمال العراق مقرا لهم ونظرتهم للقضية الفلسطينية في ظل علاقات طبيعية مع إسرائيل. وبنظره للماضي القريب في تعاملات حزب العدالة يمكن استشراف الرؤية المستقبلية لمفردات أجندة السياسة الخارجية لتركيا في عهد جول إذ إن الراجح أنها ستعمل علي تحقيق سياسات متوازنة مع العالمين الشرقي والغربي دون تفضيل لاتجاه بعينه بما يحقق مصالحها في النهاية. وإذا كان الوقت مازال مبكرا لاستشراف ما ستقوم به تركيا في هذا الصدد فإن المؤكد أنها ستمضي في طريق السياسات المتوازنة بعد أن نجح حزب العدالة عقب هجمات11 سبتمبر وتصاعد الصراع بين الإسلام الأصولي والغرب في تقديم نفسه كنموذج للتعايش بين قيم الحداثة الغربية والإسلام فكسب تأييد الغرب بجناحيه الأمريكي والأوروبي في الوقت نفسه لم يمنع الجيش الأمريكي من استخدام أراضيه وأجوائه لضرب العراق عام2003 وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن نهج السياسة الخارجية لن يتغير. السياسة الداخلية غير أن المؤكد أن السياسة الداخلية لتركيا في عهد جول يمكن أن تشهد بعض التحولات التي قد تبدو للوهلة الأولي أنها مستحيلة, غير أنه بالنظر إلي الخطوات التي اتخذها رجب طيب أردوغان زعيم الحزب الحاكم وهي خطوات باركها رفيقه جول تشير إلي عزمهما بعد أن هيمنا علي مقدرات الأمور علي إحداث تحول علي هذا الصعيد, ولا يفوتنا هنا أن نشير إلي اصرار الحزب علي ترشيح جول لمنصب الرئيس حتي تحقق له ما أراد متسلحا بالتفويض الشعبي الذي حصل عليه في الانتخابات التشريعية الأخيرة. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: تري ما هي ملامح التحولات داخليا؟ وفي هذا الصدد يمكن القول إنهما سيسحبان معا( أردوغان وجول) إلي تهميش دور المؤسسة العسكرية حامية الإرث العلماني حتي يتمكنا من الاسراع في وتيرة الاصلاحات السياسية والاقتصادية التي تحتاج إليها تركيا في المرحلة المقبلة وتأخرت كثيرا في تنفيذها وقد يساعدهما في هذا الأمر ما تحقق علي مدي السنوات الخمس الماضية من بناء علاقات فاعلة مع الاتحاد الأوروبي. وهو ما فرض علي تركيا ضرورة الأخذ بسلسلة من المعايير الاصلاحية في كل المجالات وهو ما تم استغلاله من قبلهما كأحسن استغلال لتهميش دور العسكر حتي يتم السماح لتركيا بالانضمام إلي عضوية الاتحاد إذ كان في مقدمة مطالبه ضرورة إلزام العسكر ثكناتهم وعدم التدخل في الشئون السياسية للبلاد. ومن التحولات المقرر أن تشهدها الساحة الداخلية أيضا في مرحلة تركيا جول مفردات البنية الاجتماعية عبر طرح أول دستور مدني جديد يشهد توسيع نطاق الحرية الدينية. بحظر ممارسة الضغوط علي المواطن علي المشاركة في مراسم دينية أو اجباره علي الكشف عن دينه أو انتقاد وإدانة أي مواطن يغير دينه اضافة إلي ما تضمنه المشروع الجديد للدستور من اطلاق حرية المحجبات في دخول الجامعات التركية إلي جانب فتح الأبواب أمام تدريس اللغة الكردية في المدارس التركية وهي أمور في مجملها كانت تعتبر من التابلوهات التي لا يتوجب الاقتراب منها. غير أن هذا السيناريو الذي عقد حزب العدالة العزم علي المضي فيه قدما قد يواجه بمعارضة شديدة من القوي العلمانية المدعومة من الجيش والتي سترفع أصواتها عاليا لتظهر صحة توقعاتها من أن حزب العدالة لن يفوت الفرصة في تنفيذ مخطط سري وعلني لأسلمة البلاد. ويبقي السؤال هل سينجح الحزب الحاكم في مخططه في ظل الأجواء المتوترة التي تغذيها التظاهرات العملاقة ضد التيار الإسلامي وخطاب قومي متشدد وتهديد الجيش بالتدخل في حال المس بمباديء العلمانية؟! وإذا كنا لا نملك اجابة محددة إلا أن حزب العدالة وما يمتلكه من ذكاء شديد تعامل به مع تطورات الأوضاع الداخلية المحفوفة بكثير من المخاطر والمحاذير في خضم التجربة السياسية شديدة الثراء يمكن أن ينجح في الوصول إلي ما يرتضيه أو ما يرغب فيه خاصة بعدما احتكم للشارع ونال منه تفويضا لم يسبقه إليه أي حزب آخر من الأحزاب التركية.