لابد لكل من يزور تركيا أن يلحظ تشابها كبيرا بين الشعبين التركي والمصري، خاصة بين أبناء الطبقة المتوسطة كما حدث معي في زيارتي الأولي (سبتمبر 1979) لمدينة اسطنبول، ورغم مظاهر التحرر الاجتماعي الذي يقترب كثيرا من المجتمع الأوروبي فقد كان لافتا ذلك الحب العميق الذي يكنه الشعب التركي للإسلام، إلي حد يوحي بالتعصب.. فالعلمانية التي فُرضت علي تركيا لم تمح من قلوب الأتراك تعلقهم بدينهم ولم تطمس من ذاكرتهم مبادئ وتعاليم الدين الحنيف.. وأعذب ما سمعت من الأذان كان ينطلق من مساجد تركيا بأصوات المؤذنين المصريين الذين كانت الحكومة التركية تستقدمهم من مصر. أذكر أني في زيارة تالية كنت أزور مع مرافقتي التركية أحد المساجد في مدينة إزمير ، ورأيت مجموعة من الصبية يخرجون بعد أن أدوا صلاة الظهر ، وعندما علموا من المرافقة التركية أني مصرية توسلوا إلي أن أقرأ لهم الآيات القرآنية التي تتصدر مدخل الجامع وتزين واجهته.. وصدمت صدمة شديدة عندما أخبرتني مرافقتي أن الدستور التركي يحظر تعليم القرآن للأطفال أقل من 12 عاما ويمنع أولياء الأمور من إرسال أطفالهم إلي المساجد لتعلم القرآن، بل إن المادة 24 من الدستور الذي وضعه الجيش في نفس العام (عام 1981) تحظر تعليم الدين في مرحلة التعليم الابتدائية الإلزامية التي تستغرق 8 سنوات، ولا يدرس الدين إلا في المرحلة الثانوية بمدارس الأئمة والخطباء فقط. ولم تستسلم العديد من الأسر التركية فكانوا يلجأون إلي استخدام معلمين لتحفيظ أبنائهم الصغار القرآن الكريم في المنازل.. والغريب أن الحكومة التركية كانت تجرم ذلك الفعل وكان يتم القبض علي المعلم ويقدم للمحاكمة ويحكم عليه بالسجن لمدة عامين..! لقد ذهبت علمانية تركيا منذ عشرينيات القرن الماضي إلي حد غير مسبوق من التوجس من كل ما يمت للدين بصلة، لدرجة أن الدستور كان يعد فتح مؤسسات لتعليم القرآن الكريم خارج سيطرة الدولة نشاطا غير شرعي يستحق العقاب بالسجن، وعندما قدمت حكومة حزب العدالة والتنمية عام 2005 اقتراحًا بتخفيض الحد الأقصي لعقوبة سجن هؤلاء المعلمين من عامين إلي عام واحد رفض الرئيس السابق نجدت سيزار ذلك وأعلن في بيان رئاسي أن فتح الباب أمام القطاع الخاص لفتح مدارس لتعليم الدين «يعطي الفرصة للجماعات الإرهابية لتعليم الشباب التركي الفكر المتطرف»! لقد حرم أتاتورك الفرخ التركي من الرقاد في حضن أمه الدافئ وانساق وراءه جنرالات الجيش التركي!! وسألت مرافقتي: أين يتعلم التركي دينه إذن؟ أجابت: عليه أن يلتحق بإحدي مدارس «الأئمة والخطباء» المنتشرة في معظم أرجاء تركيا وتدرس العلوم الدينية إلي جانب المناهج التي تدرسها المدارس الحكومية التركية ، ومهمتها الأساسية تخريج الأئمة والخطباء للمساجد، ولكن طلابها المتفوقين يمكنهم الالتحاق بالجامعات.. من هذه المدارس تحديدا تخرج العديد من أعضاء حزب العدالة والتنمية الحاكم حاليا، ومن بينهم رئيس الجمهورية الحالي عبدالله جول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. علمانية الجيش التركي والدستور الذي فرضوه علي بلادهم عام 1981 هي التي أدت إلي نفور الشعوب الإسلامية من كلمة «العلمانية» واعتبارها معادية للدين بشكل عام وللإسلام علي وجه الخصوص، بل اعتبرها البعض مرادفة للإلحاد. ومنذ أن تولي حزب العدالة والتنمية الحكم وزعماؤه يسعون إلي تصحيح الصورة والتخفيف من المغالاة التي ذهب إليها جنرالات تركيا، ولكن إجراءاتهم لا ترضي قطاعات عريضة من المثقفين ورجال الأعمال والأحزاب الأخري الذين يرون أن حزب العدالة قد يأخذ تركيا في اتجاه الدولة الدينية. إن هذا الصراع يضع الدولة التركية في مأزق كبير أمام الاتحاد الأوروبي الذي تسعي حثيثا للانضمام إليه، والذي يحمل شكوكا وهواجس تتزايد يوما بعد يوم تجاه المسلمين وعقيدتهم. وإذا كانت تركيا تقف علي مفرق طرق، فإلي أين تتجه؟ الغريب أن علمانية أوروبا لم تصل إلي ما وصلت إليه العلمانية التركية، ففي أوروبا لا يحظرون تعليم الدين ولا يمنعون أتباع أي ديانة من ممارسة شعائرهم بكل حرية داخل معابدهم الخاصة، ولا يمنعون المحجبات من دخول المدارس والجامعة كماتفعل تركيا التي يدين 99% من مواطنيها بالإسلام ؟ اليوم أصبح الشعب التركي منقسما علي نفسه، البعض يخشي علي العلمانية التي صبغت الحياة في تركيا ما يقرب من قرن إلا ربع منذ أن تحولت من سلطنة إسلامية إلي جمهورية علمانية علي يد مصطفي كمال أتاتورك ، والبعض يؤيد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الذي شرع منذ تبوؤه ذلك المنصب عام 2002 في إجراء عدة عمليات تجميل للوجه التركي كي يعيد إليه الملامح الإسلامية التي ميزته منذ أن انتصر محمد الثاني، السلطان العثماني الملقب بالفاتح، علي دولة بيزنطة في القرن الرابع عشر الميلادي. ؟؟ المسرح التركي اليوم يعج بالأحداث المثيرة، ففي التاسع عشر من شهر مايو الجاري سيتم الاحتفال بذكري ميلاد مصطفي كمال أتاتورك الزعيم الملهم والأب الروحي لحركة التجديد ومؤسس تركياالحديثة وأول رئيس للجمهورية التركية الجديدة ، وفي نهايته سوف تحتفل الحكومة التركية بالذكري السابعة والخمسين بعد المائة الخامسة لفتح القسطنطينية (إسطنبول حاليا)، وفي الاحتفال سيتم عرض مشهد مزي علي أنغام الموسيقي يستدعي للأذهان ذلك الحدث الفذ فتح المدينة البيزنطية، حيث يقوم الممثلون بتحطيم أبواب أسوار مدينة قسطنطينية مستخدمين الآلات الحربية التي استخدمها العثمانيون قديما، ثم يتسلقون الأسوار ويقفزون داخلها. فإلي أي العهدين ستتجه تركيا القرن الحادي والعشرين؟ العثماني أم الأتاتوركي؟ ومن الذي سينتصر في النهاية: أصحاب نظرية النيولوك الإسلامية أم أنصار العلمانية الراسخة؟ أم أن زعيمها الطموح سيقودها الي وسطية معتدلة تمحو آثار التطرف العلماني دون أن تسقط في براثن التطرف الديني! الإجابة عن ذلك السؤال تهمنا في مصر والعالم العربي الذي تتشابه ظروفه كثيرا مع تركيا وما يجري في الساحة التركية (8765 كم2 يسكنها ما يقرب من 75 مليون نسمة) قد ينبئنا بما سيحدث في بلادنا مستقبلا. إن التعديلات الدستورية التي اقترحها حزب العدالة والتي نوقشت في مجلس الأمة التركي في أبريل الماضي سيجري استفتاء شعبي عام عليها في شهر يوليو القادم، علي أن يتم الاستفتاء علي التعديلات الدستورية جملة واحدة، وليس مادة مادة.. ومن المعروف أن تلك التعديلات تلقي مقاومة شديدة من المعارضين لحكم حزب العدالة، بل من بعض أعضائه أيضا..فقد استقال نائب من الحزب يدعي زكائي أوزجان معلنًا احتجاجه علي تلك التعديلات الدستورية التي شبهها ب «القماش المرقع»، وأنه يري تناقض قيم أردوغان ومبادئه مع سياسة الحزب ، وفي لقاء إعلامي لإعلان استقالته من الحزب قال أوزجان إنه يري أن أردوغان يستغل مشاعر المواطنين المتدينين والمحافظين والمعدمين في الأناضول لتغطية أخطائه وإخفاء تداعيات الاقتصاد التركي المنهار». كذلك أعلنت العديد من الشخصيات العامة وأعضاء الأحزاب المعارضة للحكم نيتها في المقاومة، ووقعت مجموعة من رجال السياسة عريضة بالطعن علي التعديلات أمام المحكمة الدستورية من بينهم رئيس الحكومة السابق مسعود يلماز. وهكذا أصبح الأتراك منقسمين علي أنفسهم، البعض يؤيد أردوغان بلا شروط والبعض الآخر يرون أنه ألعبان سياسي يلعب بالبيضة والحجر وأن التعديلات التي طلبها حزبه مؤخرا علي الدستور ستوجه ضربتين ضد الجيش وضد الهيئة القضائية في آن معا وهما المؤسستان العلمانيتان في البلاد.. لقد جعلت سياساته المتتالية في اتجاه «تديين الحياة» في تركيا الكثيرين من النخبة الثقافية علي قناعة بأن وعوده بعدم التعدي علي الحريات العلمانية سوف تذهب أدراج الرياح، إذا ما تمكن من السيطرة علي السلطة، وخاصة أنه يسعي لتحويل النظام السياسي في تركيا إلي نظام رئاسي، بدلا من النظام البرلماني الحالي، وهو ما يعني أن تصبح مقاليد الحكم كلها في يدي رئيس الجمهورية، ولم يخف أردوجان نيته في ترشيح نفسه لهذاالمنصب في الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2011م. وإن غدا لناظره قريب.