شهدت السنوات العشر الماضية نزع السلاح الكيماوي لثلاث دول عربية، هي كل من العراق وليبيا، وأخيراً سوريا. ويمثل هذا التحوّل في قوة الردع العربية حدثاً تاريخياً ذا أبعادٍ استراتيجية عميقة. ويُعدّ السلاح الكيماوي سلاح الفقراء، وهو بعكس الرادع النووي، يُعتبر أقل تكلفة وتعقيداً من بناء ترسانة نووية، وربما نافسه في ذلك السلاح البيولوجي. ومنذ نهاية القرن الماضي، كان هناك توجه قوي لدى المجتمع الدولي لحظر إنتاج وتصنيع وتخزين واستخدام الأسلحة الكيماوية. وعلى رغم أنّ بداية الاتفاقيات الدولية في هذا الشأن تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، إلا أنّ مثل هذه المعاهدة الملزمة المشتملة لجميع جوانب السلاح الكيماوي لم يتم الاتفاق عليها إلا في يناير من عام 1993. ومنذ ذلك التاريخ، وحتى الوقت الحاضر، وافقت 190 دولة على اتفاقية ضبط الأسلحة الكيماوية، وبدأت بعض الدول، مثل الهند والصين وروسيا والولاياتالمتحدة، بتدمير معظم مخزونها من هذا السلاح. غير أنّ إسرائيل التي وقعت على هذه الاتفاقية، لم تصادق عليها حتى الآن، بينما رفضت كل من مصر وسوريا (حتى هذا الشهر)، التوقيع أو التصديق عليها باعتبار أنها تمثل معادلاً استراتيجيًا للسلاح النووي الإسرائيلي. وتبني معظم هذه الدول مثل هذه الأسلحة غير التقليدية كوسيلة لردع الأعداء، وكسلاح آخر في مواجهة محاولات احتلال بلادها، أو الاستيلاء على عاصمتها. وللأسف فإن سوريا والعراق قد استخدمتا هذا السلاح ضد شعبيهما، أو جزءاً ثائراً من ذلك الشعب. وعلى رغم أنّ العقيد القذافي كان يملك زهاء أحد عشر طناً من الأسلحة الكيماوية حين قامت الثورة الليبية، فإنه لم يجرؤ على استخدام مثل هذا السلاح ضد أبناء شعبه، وقيل إنه استخدم مثل هذا السلاح الكيماوي قبل عدّة أعوام حين واجه حرباً كلاسيكية على حدود دولة تشاد. ولذلك، فإنّ الرادع الكيماوي في مثل هذه الحالات كان فعّالاً فقط في الحرب العراقية- الإيرانية، حين استخدمه صدام لوقف الزحف الإيراني نحو حقول نفطه في الجنوب في منتصف الثمانينيات. غير أنّ النقطة الرئيسية هنا هي انعكاس مثل هذا الاستخدام لدى الرأي العام المتحضّر، الذي لم يعد يقبل باستخدام مثل هذه الأنواع من الأسلحة ضد المدنيين العُزّل، كما هو في الحالة السورية. ولذلك، فإنّ الرادع، كيماوياً كان أو بيولوجياً، أو نووياً، يصبح غير ذا جدوى في حال وجود تغطية إعلامية عالميّة تحدّ من مثل هذا الاستخدام، أو تجعل مستخدميه محل امتعاض وسخط دوليين. وبمعنى آخر، فنحن أمام تحوّل مهم في الاستراتيجيات العسكرية واستراتيجيات الردع الحديثة. فربما يقبل العالم بالحروب المحدودة التي لا يصاحبها سقوط أعداد كبيرة من الضحايا. وربما يقبل باحتكاكات على حدود بلدين، غير أنه لن يقبل بحروب طاحنة ينتج عنها ظهور ضحايا على شاشات التلفزة العالمية. ولذلك، فإنّ القرون الماضية، وإن شهدت حروباً دامية سقط فيها مئات الآلاف من البشر، فإنّ نمط الحروب الحديثة، هو ما يسمّى بالحرب الناعمة، التي من أول سماتها أنها لا تُرى ولا تُسمع، ولا تنقل أخبارها على وسائل الإعلام المختلفة. وإذا ما كانت الحروب الساخنة السابقة تعتمد على الأسلحة والرجال والذخائر، فإن الحروب الناعمة الجديدة تعتمد على الأدوات الاقتصادية وتأليب الرأي العام ضد حكومته، وسياساتها الدولية أو الإقليمية، ولنا في الحالة الإيرانية خير شاهد. فالحرب الاقتصادية التي تقودها الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي ضمن أُطر المقاطعة الاقتصادية والمالية، وعبر آليات البنوك وشركات التأمين والملاحة، قد جعلت الاقتصاد الإيراني يعاني صعوبات كبيرة تضغط على صانعي القرارات في أن يبحثوا عن بدائل ومناهج وصِيغ دبلوماسية، وإن لم تصل إلى مستوى تجميد البرنامج النووي. ولاشكّ أن إقحام الأسلحة غير التقليدية في صراعات أهلية، لم يحدث إلا في العالم العربي. فالحرب العالمية الأولى التي شهدت استخداماً واسعاً للأسلحة الكيماوية، كانت بين ألمانيا والدول الأخرى. وحين استخدمت الولاياتالمتحدة نوعاً من الأسلحة الكيماوية لتجريد الأشجار من أوراقها، كان ذلك في حرب دولية ضد فيتنام. أما في الحالة العراقية، فقد استُخدم السلاح الكيماوي ضد إيران، وكذلك ضد جزء من الشعب العراقي، ومثل ذلك في الحرب الأهلية السورية. وبنهاية السلاح الكيماوي كسلاح رادع، لابدّ من إيجاد البدائل العسكرية وغير العسكرية لخلق شكل من أشكال الردع لدى الجيوش العربية. وسيتعيّن على مخططي هذه الجيوش ابتداع أنواع جديدة وأساليب متجددة للردع. وربما كانت هناك آليات إيجابية للردع، ومن ذلك على سبيل المثال، لا الحصر، خلق روابط تكامل اقتصادية وثقافية بين الدول تحول دون استخدام جانب لأدوات العنف ضد جانب آخر. كما أنّ التواصل مع الرأي العام وخلق صور إيجابية للبلاد في بلدان أخرى، وبناء وشائج تواصل مع الأصدقاء المؤثرين في بلدان متعددة، من شأنها أن تصبح رافداً مهماً من روافد الردع البعيد المدى. لقد تغيّرت حال السياسة الدولية، وأصبحت العديد من الدول الصغرى منها والكبرى تحجم عن الاندفاع في حروب أو مغامرات عسكرية، وتؤثر أن تصل إلى حلول دبلوماسية توافقية لمسائل استراتيجية صعبة. وأصبح الثمن الاقتصادي وتكلفة الحرب أعلى بكثير مما قد تتحمله كواهل بعض الدول، خاصة في ضوء الأزمات الاقتصادية التي تعيشها. ومثل هذه الأسئلة الخاصة بالردع وأساليبه، والتساؤل المستمر عن قدرة الدول الحليفة على تقديم تضحيات في سبيل نصرة ومنعة حلفائها، أمور يجب أن تدرس من المختصين، سواءً في الأكاديميات العسكرية العربية، أو في مراكز البحث الاستراتيجي. لقد أصبح العالم أكثر تحضراً ممّا كان عليه من قبل في نبذه للعنف بكل أشكاله وصوره، غير أنّ هناك بعض الدول والزعماء المغامرين الذين لا يزالون يحاولون باستمرار سبر غور قدرة الدول وتحمّلها على أن تكون ضحية لمثل هذا العنف. نقلا عن جريدة الاتحاد الإماراتية