تجلّت عبقرية الشعب المصري منذ يوم الثلاثين من يونيو في عدة مظاهر لابد من تسجيلها بغض النظر عن النتائج التي انتهت إليها الأحداث. أول تلك المظاهر ذلك الخروج الهائل للجماهير والذي قدرت محطة السي أن حشودها بثلاثين مليون مصري. إن الصور الجوية التي تم التقاطها لهذه الجماهير الغفيرة بدت من الجو في صورة مهيبة تغطي وجه الأرض في ميدان التحرير والمناطق المحيطة به والمؤدية إليه. كان مشهد كوبري قصر النيل الواصل بين ميدان التحرير والدقي مثيراً للرهبة، وهو مغطى بكامله بالبشر الذين لم يجدوا مكاناً داخل الميدان لامتلائه. المشهد نفسه ظهر في محيط قصر الاتحادية بمصر الجديدة، والذي ملأت الجماهير كل الطرق المؤدية إليه. وإذا كان جلال المشاهد يظهر عن بعد من خلال الكاميرات، فإن عبقريتها تتبدى عندما تنزل بنفسك إلى عمق الحشود. هناك ستجد نفسك تتحرك في مساحة جسدك بالضبط فلا مكان لشخص أكثر من هذا والأهم أنك ستجد حولك نسيجاً بشرياً راقياً في نداءاته وحضارياً في سلوكه، والمذهل أنك ستجد نفسك محاطاً بعائلات كاملة؛ الأب والأم والبنات والأولاد من مختلف الأعمار، يتحركون في سكينة وثقة واستبشار بأنهم قادرون على تحقيق إرادتهم في بناء وطن حر متحرر من الاستبداد والقبضة الحديدية. المظهر الثاني هو ذلك التلاحم الحميم بين المسلمين والمسيحيين في مشهد وطني يؤكد سماحة مصر ووحدة شعبها. المظهر الثالث لعبقرية الشعب المصري يتجلى في تمسك المسلمين بإسلامهم الوسطي السمح المعتدل بعيداً عن التزمت والتشنج والمسالك الخشنة والترويع ما يشوه وجه الإسلام. المظهر الرابع لعبقرية الشعب يتمثل في روح المسالمة والتمسك بسلمية التظاهر والبعد عن أي أعمال شغب أو عنف، أو تعرض خشن للمعارضين أو المخالفين في الرأي. أردت أن أسجل هذه المظاهر الأربعة التي لمستها بنفسي من خلال وجودي في قلب الحشود قبل أن أشير إلى تشخيصي للوضع السياسي، وهو التشخيص الذي ذكرته في مقال الجمعة الماضية، باعتبار أن ما يحدث هو حالة لاختبار القوة بين المعسكر المدني ومعسكر الحكم الإخواني وحلفائه في تيار الإسلام السياسي. لقد تبين أن المعسكر المدني جارف الحضور في الشوارع، على عكس ما توقع الحكم قبل 30 يونيو، وكان المفروض أن يقنع هذا معسكر الحكم بأن يقدم تنازلات ملموسة تؤدي إلى تهدئة الأجواء، مثل تشكيل حكومة إنقاذ وطني، ووقف عملية أخونة الدولة ومفاصلها، والإقدام على تعديل مواد الدستور الخلافية. لكن الصورة لم تعكس اقتناعاً من جانب معسكر الحكم، ولذا فقد اكتفى بالدعوة للحوار مع المعارضة، رغم أن قوى المعارضة سبق وأن اشتكت من أن إجراء الحوار مع الحكم ينتهي دائماً إلى تصلّبه في مواقفه وإقدامه على أمور عكس ما طرحته المعارضة. نقلا عن جريدة الاتحاد الإماراتية