الفتور الذي تستقبل به الدوائر السياسية والإعلامية الأمريكية الصحوة المتأخرة التي انتابت إدارة الرئيس جورج بوش إزاء القضية الفلسطينية له ما يبرره. ومن واقع ما تنشره الصحف وما تزدحم به مراكز الأبحاث السياسية في واشنطن من ندوات ومحاضرات يمكن اختزال التفسير في سببين كلاهما مر.. الأول شيوع اعتقاد عام بأن حل القضية الفلسطينية غير ذي صلة حقيقية بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية وانه لا داعي لأكثر من الاكتفاء بما يطلقون عليه دبلوماسية إطفاء الحرائق, أي التهدئة عندما تلتهب الأوضاع دون البحث عن تسوية حقيقية للصراع. بناء علي هذا فإن من المهم للولايات المتحدة تركيز جهودها وطاقاتها في قضايا اكثر حيوية لمصالحها مثل العراق. انصار هذا الرأي لهم وجود قوي في الادارة نفسها ولعل ست سنوات من تجاهل القضية الفلسطينية منذ بداية حكم بوش تؤكد ذلك دون حاجة لدليل اضافي. السبب الآخر للبرود السياسي والإعلامي تجاه الحديث الرسمي الأمريكي المتأخر عن تسوية القضية الفلسطينية ومبادرة بوش بعقد المؤتمر الدولي هو وجود احساس, ان لم يكن يقينا, بعدم جدية الإدارة الحالية او قدرتها علي تحقيق تسوية نهائية وشاملة للصراع العربي الاسرائيلي, لاسيما القضية الفلسطينية, اما مؤتمر السلام المقبل فيمكن ان يسفر عن اي شيء الا جلب السلام أو حل القضية. فلسفة الأولويات وتقدم مقالة نشرها الأسبوع الماضي المحلل السياسي الأمريكي المخضرم جيم هوجلاند في واشنطن بوست نموذجا يعكس نوعية المناقشات المكثفة الجارية حاليا حول فلسفة الأولويات التي يجب أن تلتزم بها الإدارة في تعاملها مع القضايا الخارجية. يطرح هوجلاند سؤالا بديهيا, يردده كثيرون أيضا, هو: -أي مؤتمر تحتاجه الولاياتالمتحدة بالفعل: -مؤتمر حول العراق أم القضية الفلسطينية؟ مضيفا أنه بينما انتظر الجميع من بوش إطلاق مبادرة لوقف التدهور في العراق اختار هو السير في الاتجاه الآخر, وبينما تحتاج واشنطن إلي استراتيجية للخروج من العراق يفاجيء بوش الرأي العام باستراتيجية للدخول إلي متاهات القضية الفلسطينية. كان يجدر ببوش, كما يقول اصحاب هذا الرأي, أن يستقل القطار المتجه إلي بغداد وليس القدس. غير أن الكثير من المحللين الأمريكيين لم يغب عنهم وجود البعد العراقي وراء التحرك الأمريكي علي صعيد القضية الفلسطينية, فإذا كانت المحطة المقبلة في القاطرة السياسية الأمريكية هي القدس فإن الوجهة النهائية تبقي بغداد بكل تأكيد, ذلك أن بوش المدرك لحجم الاستياء العربي من تجاهله المتعمد للقضية الفلسطينية يحتاج إلي تقديم ثمن معقول يشجع به العرب علي مساندة ادارته في العراق وتكتلهم ضد إيران. غير أن السؤال هنا هو: هل ستدفع واشنطن وإسرائيل ثمنا حقيقيا لإرضاء العرب؟ لا شيء يوحي بذلك, ولا أحد في واشنطن تخالجه أي أوهام أو أماني بحدوثه, وبالتالي فإن اكثر المتفائلين لا يتوقعون سوي خروج المؤتمر المقبل ببيانات مشجعة عن الدولة الفلسطينية الموعودة وسلسلة إجراءات لتخفيف الحصار عن الفلسطينيين وتقليل معاناتهم وربما حفنة دولارات اضافية ثم لا شيء. لا حل نهائي للقضية ولا قرارات تاريخية ولا تسوية للمشاكل الجوهرية مثل اللاجئين والحدود والقدس. بمعني آخر سيكرس المؤتمر الوضع الحالي بما فيه الانضمام الفلسطيني, وهذا الرأي يطرحه دبلوماسي عربي في واشنطن خلال رده علي سؤال للأهرام حول تحليله للوضع الراهن وتوقعاته من المؤتمر المقبل, ويقول مفضلا عدم ذكر اسمه, ان الانفصال الحالي بين الضفة وغزة سيستمر لبعض الوقت لانه يحقق مصلحة, ولو مؤقتة, لجميع الأطراف, وبالتالي سيسعون للحفاظ عليه, ويفسر الدبلوماسي وثيق الصلة بالقضية هذا الرأي بقوله إن فتح تخلصت من ألد خصومها, أي حماس, وضمنت حصارها منبوذة دوليا وعربيا في غزة, وانفردت هي بالحكم بلا منازع في الضفة وبدأت تنعم بالأموال المتدفقة عليها من الغرب. حماس من جانبها تبدو سعيدة لأنها تخلصت من عبء سد احتياجات الشعب الفلسطيني في ظل حصار دولي ظل يلازمها منذ تشكيل حكومتها, وربما يشعر قادتها ان الرئيس الفلسطيني محمود عباس نفسه هو المحاصر في الضفة وليسوا هم, لأنه في النهاية لن يمكنه تحقيق أي انجاز دون وحدة الصف الفلسطيني, ولأن قربه أكثر من اللازم من امريكا واسرائيل سيضعف موقفه شعبيا. إسرائيل بطبيعة الحال, والحديث مازال للدبلوماسي العربي, هي اكبر الرابحين وأكثر السعداء بهذا الوضع وأشد الحريصين علي استمراره لأسباب كثيرة مفهومة, ولعل هذا يفسر لماذا لم يسارع رئيس الوزراء ايهود أولمرت بمحاولة تصفية حماس او قادتها واعادة سيطرة فتح علي غزة حتي الآن, وما يسر اسرائيل ستبتهج له واشنطن في كل الاحوال وان كان لديها اسبابها الخاصة للسعادة في ظل التخلص من حماس. الازمة مرشحة بذلك لأن تطول ليس فقط بسبب حرص هؤلاء السياسيين علي استمرارها ولكن لأن الاستثمار الامريكي الاسرائيلي لما يجري لخنق حماس والقضاء عليها سياسيا وتقويض أي فرصة لإعادتها إلي الحكم مستقبلا يزيد الأوضاع تعقيدا. ولكن هل ستستطيع إدارة بوش توظيف المؤتمر المقبل لخدمة هذا الهدف او تقديم شيء ما الي الرئيس الفلسطيني يدعم موقفه شعبيا في مواجهة حماس؟ الاجابة باختصار هي لا يقولها بثقة المفاوض الإسرائيلي السابق دانيال ليفي الباحث في مركز نيوامريكا فونديشين بواشنطن خلال محاضرة ألقاها قبل أيام, وهو يرصد ملامح فشل أمريكي ذريع في الوصول إلي أي نتائج حقيقية, والسبب, كما يوضحه هو, وجود قصور فادح في الرؤية الأمريكية للخريطة السياسية بالشرق الأوسط ككل وليس في الاراضي الفلسطينية وحدها, ويشرح ذلك بقوله ان تقسيم المنطقة الي متطرفين ومعتدلين يمكن ان يقدم مادة جيدة وجذابة لصنع خطاب سياسي جماهيري, ولكن علي الارض هناك منطقة رمادية هائلة يبدو ان بوش لا يراها او لا يريد الاعتراف بها, وهذا التعامي عن رؤية الواقع في الشرق الأوسط هو ما سيجلب الفشل له ولخطته ومؤتمره. حقائق وأوهام يحتاج هذا التفسير المكثف إلي ايضاح, وهو مهمة تصدي لها اثنان من ألمع خبراء الشرق الأوسط في واشنطن هما روبرت مالي مدير برنامج الشرق الاوسط في مجموعة الازمات الدولية, وارون ديفيد ميلر الباحث السياسي في معهد وودرو ويلسون ومؤلف كتاب أمريكا وأرض الميعاد, وهما يشرحان أسباب الفشل الذي ينتظر التحرك الأمريكي في مجموعة من التحليلات المطولة يمكن استخلاص أهم ما جاء بها في النقاط التالية: * المحاولة الأمريكية لحل القضية الفلسطينية تأتي متأخرة جدا وفي أحسن الأحوال متأخرة عامين كاملين, فإذا كان بوش يريد تحقيق إنجاز تاريخي فقد كان الوقت المناسب لذلك هو عام2005 عندما تولي عباس السلطة خلفا لياسر عرفات وكان يومها في أوج قوته السياسية وقادرا علي اقناع شعبه بقبول قرارات صعبة ولم تكن حماس قد قفزت الي الحكم. * بوش يعانق الوهم عندما يتصور ان بمقدوره هزيمة حماس من خلال رفع شعار الضفة اولا, لأن فتح لم تعد ذلك التنظيم القوي الذي يمكن ضمان نجاحه بمجرد إغداق الأموال عليه, كما أن الرئيس عباس أو أي زعيم فلسطيني آخر لا يمكنه التمادي في قبول منح المساعدات والمزايا الي الضفة وتجاهل غزة وبالتالي تقديم نفسه كزعيم للضفة وحدها وليس رمزا لكل الفلسطينيين. الاعتقاد بأن حصار حماس في غزة سيوفر الأمن لإسرائيل وهم كبير آخر يتناقض مع الحقيقة المعروفة وهي أن معظم الهجمات التي تعرضت لها إسرائيل منذ الانتخابات التي فازت فيها حماس شنتها كتائب شهداء الأقصي الجناح العسكري لفتح وليس حماس. * المبالغة في الضغط علي حماس لعبة شديدة الخطورة لأن الحركة اذا شعرت بأنها تختنق فلن تتردد في إشعال العنف في الأراضي الفلسطينية وضد إسرائيل أيضا. * أخيرا تعميق الانقسام الفلسطيني لن يحقق في النهاية السلام الذي يتحدث عنه بوش بل سيجعله مستحيلا أكثر من أي وقت مضي. مالم يقله مالي وميلر في النهاية هو أن اتخاذ قرارات صعبة وتاريخية لصنع السلام في الشرق الأوسط مسألة تتجاوز بكثير قدرات وظروف وطاقات الشركاء الثلاثة: بوش وعباس واولمرت, واذا كان عباس تراوده احلام حقيقية مخلصة في تحقيق السلام العادل والنهائي فإن بوش واولمرت لديهما اجندة مختلفة, وهما اكثر واقعية وأقل إخلاصا من أن يشاركاه نفس أحلامه الجميلة.