ما تريده واشنطن وليس ما تعلنه هو الأكثر أهمية وفائدة لفهم حقيقة وأبعاد النشاط الحالي الذي دب في أوصال إدارة الرئيس جورج بوش ودفعها أخيرا لتحريك المسار الفلسطيني. هذا يعني تلقائيا افتراض أن ما تقوله علنا غير ما تسعي إليه في الحقيقة, وقد يكون هذا صحيحا, وهناك الكثير من الشواهد والأدلة تؤكده ولكنه يعني في الوقت نفسه التساؤل حول ما تسعي للوصول إليه بالفعل . وهو تساؤل لا يمهد لاستحضار الحديث المكرر عن خطة أمريكية لبناء تحالف المعتدلين لمواجهة إيران وحماس وحزب الله. وعلي الرغم من صحة هذا الاستنتاج الشائع الذي لا تنكره الإدارة نفسها, إلا أنه لا يقدم سوي جانب واحد من المشهد السياسي المعقد في واشنطن. ويتجاهل حقيقة الانقسام بين أقطاب الإدارة حول سياستها في الشرق الأوسط. والنقاش العلني الدائر سواء في الكونجرس أو وسائل الإعلام أو مراكز الأبحاث منذ الإعلان عن انعقاد مؤتمر أنابوليس يكشف عمق التناقض والاختلاف حول السياسة الأمريكية في المنطقة بين المتشددين داخل الإدارة بزعامة نائب الرئيس ديك تشيني والمعتدلين نسبيا بقيادة وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس. وأهم ما تكشف عنه تلك المناقشات هو أن حكومة بوش لم تحسم أمرها بعد حتي ولو كانت رايس قد كسبت الجولة الحالية بإقناعها بوش بعقد المؤتمر. ومن عشرات إن لم يكن مئات, التقارير والدراسات والمناقشات يمكن استخلاص نموذجين يجسدان بعمق هذا التناقض حول ما يجب أن تفعله أو لا تفعله الإدارة في الشرق الأوسط. النموذج الأول يعرض وجهة نظر المحافظين الجدد والاتجاه الذي يضغطون علي بوش للسير فيه هذا النموذج من التفكير عبر عنه بصورة متكاملة أحد أشهر مفكريهم, وهو الدكتور ديفيد ورمسير المستشار السياسي السابق لتشيني لشئون الشرق الأوسط منذ2003 وحتي منتصف العام الحالي. كما عمل مساعدا لأحد أقطاب المحافظين الجدد وهو المندوب الأمريكي السابق في الأممالمتحدة جون بولتون خلال عمله بوزارة الخارجية وهو أيضا كاتب وباحث في العديد من مراكز الأبحاث السياسية وأهمها أميريكان انتربرايز اليميني المعروف في واشنطن. وخلاصة ما يراه هؤلاء المحافظون لخصه ورمسير في شهادة أدلي بها أمام لجنةا لعلاقات الخارجية بمجلس النواب الأسبوع الماضي في جلسة استماع بعنوان ما بعد أنابوليس. في المقابل تجسدت مجموعة من المحاضرات والكتابات للباحث الشهير أرون ديفيد ميلر, الأستاذ في معهد وودرو ويلسون للدراسات الدولية والمستشار السياسي لشئون الشرق الأوسط لستة وزراء خارجية سابقين الاتجاه الأكثر اعتدالا داخل الإدارة. وأهمية الاستشهاد بآراء ميلر بالذات ليست في خبرته الطويلة أو اعتداله فحسب ولكن أيضا في التوافق الغريب بين ما قاله في كتابه تحت الطبع عن القضية الفلسطينية باسم التخلي أو الهجر وبين ما قامت به الخارجية الأمريكية من تنفيذ مجموعة من التوصيات التي يتضمنها الكتاب. وسواء كان هذا محض مصادفة أو أن القرارات استندت بالفعل علي ما قاله فإن الإصغاء إليه أمر مهم في الحالتين. حدد ميلر في كتابه وفقا للفقرات التي نشرت منه منذ أبريل الماضي أي قبل سبعة أشهر من انعقاد أنابوليس3 خطوات يجب علي الإدارة أن تبدأ بها لإحياء عملية السلام, وهو ما نفذته بالحرف بعد ذلك. المعني الذي أراده من عنوان كتابه هو عزوف إدارة بوش عن التدخل في عملية السلام بعد الفشل الذي مني به كلينتون في كامب ديفيد2000 وهي القمة التي كان ميلر نفسه أحد مخططيها. ولا يخفي اعتقاده بأن بوش لم ير أبدا أن للصراع العربي الإسرائيلي أي أولوية في برنامجه السياسي. وعلي الرغم من تأكيده أن ست سنوات من التأخير جعلت الأوضاع أكثر صعوبة, إلا أنه يري أن الأمل لإحراز تقدم مازال قائما إذا نفذت الإدارة الإجراءات الثلاثة وأولها تعيين مبعوث أمريكي خاص علي مستوي عال لإدارة القضايا الفلسطينية الإسرائيلية علي الأرض بما فيها الأمن. وقد نفذت رايس بالفعل هذا الاقتراح وأعلنت يوم28 نوفمبر الماضي عن استحداث هذا المنصب الذي تولاه الجنرال جيمس جونز. الاقتراح الثاني الذي أوصي به كان قيام واشنطن بتشجيع الدول العربية أو الضغط عليها لتحديد الخطوات التي ترغب في القيام بها لتطبيع العلاقات مع إسرائيل, بما في ذلك عقد اجتماع بين مسئولين سعوديين وإسرائيليين, وهو ما حدث بالفعل في أنابوليس وقبله في زيارة وفد باسم الجامعة العربية إلي إسرائيل للمرة الأولي. وأخيرا اقترح ميلر وقد كان إنشاء قناة اتصال بين الإسرائيليين والفلسطينيين لاختبار إمكانية تحقيق السلام وهي النهاية التي أسفر عنها المؤتمر. ومع ذلك لا يجب التعامل مع أقوال ميلر وكتابه باعتباره الدليل الذي تسترشد به رايس في رحلتها الصعبة وسط التضاريس السياسية الوعرة في الشرق الأوسط إلا أن خلاصة ما يقوله ويكتبه يكشف كيف يفكر التيار الذي تتزعمه هي داخل الإدارة. يبقي أن ميلر وهذا بالطبع ما لا تقوله الوزيرة يستبعد تحقيق سلام دائم ليس فقط بسبب ما يصفه بالفجوة الكونية بين الطرفين. ولكن أيضا لأن زمن الزعامات التاريخية بحجم السادات وبيجن والملك حسين ورابين قد ولي كما أن الصف الثاني مثل عرفات وشارون لم يعد له وجود. أما أولمرت فهو يعتبره زعيما فاشلا ولا يعول علي باراك ونيتانياتو, لأنهما صغار كما يصفهما. عربيا فإن أبو مازن زعيم طيبة همشته حماس. وبشار الأسد ورث مشاكل أبيه ولم يرث حنكته.. والخلاصة فإنه إذا كان السلام صعبا في2000 فهو مستحيل تقريبا في2008. ليس أولوية: ويرفض ورمسير القول بأن الوضع يختلف هذه المرة, وإنه سيكون هناك تقدم, ويحدد خمسة أسباب لرفضه هي: * أولا: أن المفهوم الذي انطلق منه أنابوليس يتناقض مع استراتيجية بوش لنشر الحرية في المنطقة, وأنه لا توجد, كما يقول, قيادة فلسطينية مسئولة ومعتدلة تستطيع اتخاذ قرارات صعبة, وظهور تلك القيادة يحتاج إلي ترسيخ الديمقراطية أولا, وتلك عملية طويلة. * ثانيا: ان أي استثمار في حركة فتح هو طاقة مهدرة بسبب ضعف الحركة وقيادتها, ولذلك فإن التفاوض سيكون أشبه ببناء بلا أساس, كما أنها لم تعترف بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية, وهو سبب كاف من وجهة نظره, يسقط عن القيادة الفلسطينية أهليتها للتفاوض! * ثالثا: لا يجب الاستهانة بالوضع في غزة ويطلق عليها الدويلة الإرهابية بقيادة حماس. ويقول بالنص: لو كان أنابوليس مؤتمرا لحشد دول بهدف تشكيل تحالف لتدمير إيران والتخلص من حماس وليس تحقيق السلام العربي الإسرائيلي, لكان له هدف في هذه الحالة, ولكن بدلا من أن يركز علي مشكلة حماس وإيران علق الآمال علي عملية تفاوضية جديدة مع أبو مازن. * رابعا: اعتبر أن إضفاء البعد الإقليمي علي الحل من خلال دعوة كل تلك الدول للحضور إلي المؤتمر هو اتجاه خطير, لأن التعامل مع القضية ببعدها الإقليمي هو المشكلة وليس الحل. وخطأ بوش, كما يقول, هو انه أخضع القضية الفلسطينية للاتجاهات الإقليمية, ويضع حلها في قلب محاولته لإيجاد تحالف دولي ضد إيران في حين انحاز الفلسطينيون إليها عندما صوتوا لحماس. * أخيرا: القضية الفلسطينية, كما يقول, ليست ولا يجب أن تكون علي رأس الأولويات القومية للولايات المتحدة في ظل الأوضاع العالمية الراهنة وهي تستحوذ بصورة غير ملائمة علي اهتمام الإدارة علي حساب جهدها في قضايا أهم مثل العراق وإيران وباكستان وكوريا الشمالية. الغريب أن ميلر المعتدل الذي يمثل معسكر رايس وورمسير المتشدد الذي يجسد أفكار تشيني يصلان في النهاية ومن طريقين مختلفين, إلي النتيجة نفسها, وهي أن بوش لن يحقق شيئا. الأول يقول إن السلام الآن مستحيل والثاني يضيف أنه لا داعي لإضاعة الوقت فيما لا طائل منه.