شيع أهالي مدينة الحويجة (24 أبريل 2013) أربعة وثلاثين نعشاً، هم ضحايا الاعتصام المدني، وبما أن العراق في السنوات العشر الأخيرة المضطربة لا ينقصه تكريس الضغائن، لذا تُعد المجزرة حدثاً يستحق مراجعة السياسات وتحمل المسؤوليات كافة، فهي ليست كبقية مجازر التفجيرات والاغتيالات فاعلها غامض، إنما هي السلطة نفسها، وقد شربت كأس الدم، ولا أظن شاربها سيرتوي إن ديمقراطياً يحسب نفسه أو دكتاتورياً بوصف الآخرين. إنها دماء ليست كدم المتظاهر هادي المهدي (2011)، امتصه الظلام، إنما أخذ تنور البغضاء يفور بحرارتها، ومن أراد السلطة على أساس الطائفية فتح باب السعير ولا يجد لها قفلا. يمكن أن بضعة متظاهرين أو مندسين هاجموا جندياً أو ضابطاً، لكن هذا لا يبرر اكتساح ساحة مكتظة وشن حرب، وسقوط قتلى بهذا العدد، فمهما كان الأمر محرجاً تبقى الاعتصامات مدنية، وعلى المتحصنين بالمنطقة الخضراء أن يواجهوا المتظاهرين ويستجيبوا لمطالبهم، هذه هي الديمقراطية لا توجيه الرصاص بوزر فرد أو فردين! وإذا عجز المسؤول عليه الاستقالة ألف مرة، أفضل وأزكى له من إطلاق رصاصة واحدة! لكن حزبيي السلطة، وبالأخص «دولة القانون» وقطبها «الدعوة»، لا تجري على ألسنتهم سوى لازمة واحدة، هي أن المعتصمين لا يريدون حاكماً شيعياً، وأنهم اعتادوا على وجود السلطة بأيديهم؟ أسأل: هل مثل هذا الكلام يفسر المشكلة ويحلها؟ يقولون هذا، مع أنهم يعلمون أن ما كان بينهم والنظام السابق ليس بين شيعة وسنّة، إنما كان بين أحزاب تريد السلطة وإقامة نظامها الخاص، وحزب متمسك بها ومستعد أن يفني العراق في سبيلها! فهل خلا هذا الحزب وسلطته من الشيعة؟ أم أن الشيعة فقط انتظموا في «الدعوة» دون غيرها من الأحزاب والجماعات على مختلف المشارب؟! أقول: هل يمكن سلب شيعية البعثيين والمسؤولين السابقين، كقادة في الجيش، من وزارة دفاع ورئاسة أركان ومحافظين ومسؤولي دوائر في المخابرات والأمن والإعلام ورؤساء وزراء ووزراء وأعضاء قيادة قطرية وقومية، ومسؤولي فروع وشعب في «البعث»؟ وبالمقابل هل يجوز سلب سُنَّية الذين أعدموا في ظل حكم «البعث» من أعضاء قيادة قطرية وقومية ومجلس قيادة الثورة؟ إن هذه الثقافة، لا تليق بمن يريد حكم العراق على أنه يمثل الأكثرية، فالأخيرة إذا صح أنها كذلك لا تعني الهيمنة والتلويح بالثأر، بقدر ما يأتي منها الاطمئنان والاحتواء على أساس المواطنة. وأرى الحق ما قاله صالح الجعفري (ت 1979): «أكلَ يوم ضجيج/يقوم حول المناصب/وأعجبُ الكلُّ ينمي/ إلى اختلاف المذاهب» (الخاقاني، شعراء الغري). إن ضرب الحويجة، وأي منطقة أخرى من مناطق الاعتصامات بالمناطق الغربية الثائرة، لا شأن له بسلطة شيعية. إنما له شأن بسياسة عوجاء عرجاء، ومن يتابع مسلسل تدهور الأوضاع، بعد إعلان نتائج الانتخابات العامة (مارس 2010) وما قبلها، لا يصعب عليه توقع النتائج بما أسفرت عنه الوقائع. لا أبرئ محاولات توظيف التظاهرات، من قبل مدفوعين بمشاعر شتى، فهناك من لا يُرجى من خطابه وطنية أو عاطفة عراقية، خطاب يفور بالكراهية، من ينفي هذه المشاعر ينافق نفسه، لكن مثل هذا وغيره لا يمثل إلا نفسه وجماعته الضيقة، وبالتالي هم غير مسؤولين عن شعب وبلاد في حربها وسلمها، في طعامها وأمنها، هم شيء والسلطة شيء آخر، ألسنتهم غير لسانها، وردة فعلهم غير ردة فعلها، فبغض النظر عن حقيقة الموقف تبقى السلطة هي المسؤولة. كنا عندما يرد النظام السابق على احتجاج أو عمل مسلح، كتفجير أو محاولة اغتيال، نحمله الذنب قبل التحقق والتثبت، لأن السلطة صاحبة القوة والمفروض الحلم أيضاً، فكم رئيس جمهورية ووزارة، بالبلدان الديمقراطية، استقال لكلمة تفوه بها فسرت أنها تحمل معنى العنف والكراهية، أو لعجزه عن استتباب الأمن؟ ليس عندي المفيد عن تاريخ الحويجة، سوى أن اسمها تداول في حوادث مطلع القرن التاسع عشر (1800)، حينما عامل العثمانيون عشائر «بني لام» وشمر بقسوة، فمن جملة ما حدث «انتقال العُبيد (عشيرة) وعبورهم دجلة من الجزيرة إلى الحويجة متخطين بذلك جبل حمرين» (لونكريك، أربعة قرون من تاريخ العراق)، ونجد ذلك وقع في عهد وزير العراق سليمان باشا الكبير (ت 1803). فوالي بغداد كان على الغالب يسمى وزير العراق، وكثيراً ما يطلق اسم بغداد على العراق كافة (أسقف بغداد 1742، مجلة بين النهرين العراقية 1983). يبدو أن الحويجة اسم لأكثر من منطقة، فغير حويجة العراقية التي نحن بصددها والتابعة لمحافظة كركوك، وغير حويجة السورية بحماة، هناك حويجة المسماة ب«سيره» والمتفرعة من الفرات التي غزاها وزير العراق آنذاك (1819) داود باشا(ت 1831) يطارد عشائر الدليم (العزاوي، العراق بين احتلالين). كما قرأت في «لغة العرب» عن حَويجة الجويزات الكائنة مقابل مدينة بلد بالقرب من سامراء. هذا وقيل إن أصل تسمية الحويجة «الحَويقة»، منحوت من «حاقَ به، أي أحاط به، لأن ماء النَّهر يكتفها مِن كل الجوانب»، ومن لسان العراقيين يلفظون القاف جيماً أو كافاً فارسية أو كردية، وبهذا تحولت حويقة إلى حويجة (مجلة لغة العرب، فبراير 1912). مثل كلمة طريق يلفظونها «طريج» وابريق يلفظونها «ابريج»، وغير هذا كثير، وذلك حسب الظاهر لصعوبة اللفظ ونشازه في اللهجة الدارجة، أو أنه من اللهجات العربية القديمة. لكن ليس كل قاف تقلب جيماً أو كافاً، إذا اختل المعنى. هذا كل ما لدي عن تاريخ الحويجة، أما حاضرها فيسأل: عم تسفر اعتصامات واحتجاجات طوال ثلاثة أشهر؟ المنطقة الخضراء ببغداد تلوح بالسَّيف، وبوجود القوة تترجم التهديدات بإراقة دماء، وبهذا ستضاف مظلومية على مظلوميات عصية على النسيان. كم حذّر الآخرون من وجود قوات «دجلة»، وكانت الحجة أنها للحماية الأمن الوطني من غزو أجنبي وإرهاب، لكن على ما يبدو للعيان ضاع الحد الفاصل بين الأجنبي والوطني، حتى غدت المفاهيم تتداخل وتتشابك! والأزمات تترادف على بلد بلغ وارده النفطي سبعة مليارات دولار لشهر واحد، ثروة تنسيك قارون كمضرب المثل في «المال والنَّشب». فالمفروض أن يعيش سكانه النعيم لا الجحيم، أعطاهم دستوره (2005) الحق بالتظاهر والاعتصام ولو لأعوام! أما مجزرة وفق الدستور فتلك من علامات «دولة القانون»! نقلا عن صحيفة الاتحاد