لم يكن اللبنانيون في صبيحة الثاني عشر من يوليو من العام الماضي, يعلمون أن إسرائيل ستبدأ في نفس اليوم, شن حرب عنيفة ضدهم, ستؤدي الي تدمير كل الجسور والطرق الرئيسية, وتنشر القنابل العنقودية في كل مكان بالجنوب, ليستمر ضحاياها في التساقط حتي بعد انتهاء الحرب. لكن الأثر الأكبر والأخطر لتلك الحرب علي اللبنانيين, هو نجاحها في تفجير الوضع الداخلي, ونشوب أضخم أزمة سياسية تعرفها البلاد منذ الحرب الأهلية, بعد أن تحول لبنان الي ساحة لصراعات إقليمية ودولية متعددة, برغم أن كل التوقعات كانت تشير الي أن نتائج الحرب, خاصة صمود حزب الله وفشل إسرائيل في الإفراج عن جندييها المختطفين ستفجر الوضع داخل إسرائيل لا داخل لبنان. ويري المراقبون أن هناك عدة عوامل داخلية وخارجية أدت الي تفجر الأوضاع اللبنانية عقب الحرب مباشرة, فحزب الله واجه خلال الحرب انتقادات كثيرة من معظم الشعب اللبناني وخاصة من الطائفتين السنية والمارونية والأغلبية النيابية التي حملته مسئولية العدوان الإسرائيلي والدمار الشامل الذي لحق بلبنان, بعد أن أعطي الذريعة لإسرائيل بقيامه بخطف جنديين علي الحدود. واتهمت هذه القطاعات حزب الله بخطف قرار الحرب من الدولة اللبنانية تنفيذا لمصالح إيرانية علي حساب مصالح اللبنانيين, الأمر الذي وضع الحزب والطائفة الشيعية بشكل عام في موقف دفاعي, بالإضافة الي أن القرار الدولي1701 الذي أنهي الحرب أبعد حزب الله عن الحدود التي أصبحت تحت حماية القوات الدولية( اليونيفيل) والجيش اللبناني, ولم يعد لدي الحزب القدرة علي القيام بأي عمل عسكري علي الحدود ضد إسرائيل. كما كان يفعل من قبل, وهو ما جعل الحزب وحلفاءه يهربون الي الأمام بإيجاد أزمة داخلية مع الأغلبية بهدف إعادة السيطرة علي الوضع الداخلي بشكل يسمح لهم بإعادة ترتيب البيت اللبناني وخاصة في ظل اقتراب موعد انتخاب رئيس الجمهورية الجديد. وكانت البداية بالانسحاب من حكومة فؤاد السنيورة التي قادت لبنان خلال الحرب, والاعتصام في قلب بيروت بالقرب من مكتب السنيورة ومحاصرته واجباره علي الاستقالة, وكان سيناريو المعارضة يقوم علي الاطاحة بالحكومة عبر الشارع, وتشكيل حكومة مؤقتة تتولي إجراء انتخابات نيابية مبكرة تسعي المعارضة من خلالها الي الحصول علي الأغلبية وإعادة تركيب الوضع السياسي اللبناني, لكن الدعم الدولي والعربي القوي لحكومة السنيورة أفشل هذا السيناريو. ومع مرور الوقت, تراجعت فرص إمكان إجراء انتخابات نيابية مبكرة, وتقلص هدف المعارضة المدعومة من سوريا وإيران الي تشكيل حكومة جديدة أو حتي توسيع الحكومة الحالية, مع منح المعارضة ثلث الحقائب الوزارية لتضمن بذلك عدم صدور أي قرار من الحكومة بدون موافقتها, ولتستطيع اسقاط هذه الحكومة في أي وقت بمجرد أن يقدم هذا الثلث استقالته طبقا للدستور, والأهم من ذلك أن السيطرة علي الحكومة سيتيح للمعارضة عرقلة عملية إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بقتلة رفيق الحريري التي تحاربها سوريا بكل الطرق والوسائلبعد أن وجهت الأغلبية أصابع الاتهام لها في هذه الجريمة, كما أن هذه السيطرة تقوي موقف المعارضة عند انتخاب رئيس جديد للجمهورية في نهاية شهر سبتمبر المقبل خلفا للرئيس اميل لحود. وقد نجحت فرنسا والولايات المتحدة في سحب موضوع المحكمة الدولية بعيدا عن ضغوط المعارضة اللبنانية ومحاولات عرقلتها في مجلس النواب, وتم اقرارها عبر مجلس الأمن, وبقيت مشكلة التوافق علي الرئيس الجديد التي تعد المحور الأساسي للأزمة اللبنانية الآن, فالأغلبية النيابية التي تحظي بدعم دولي تقوده باريس وواشنطن ودعم عربي تقوده السعودية, تري أن من حقها اختيار الرئيس الجديد من بين صفوفها, فهي تملك الأغلبية, والرئيس المرتقب هو أول رئيس يتم انتخابه بدون قرار سوري وبالتالي لابد من عدم السماح بتدخل دمشق في هذا الموضوع عبر حلفائها في لبنانكما أن الاستقلال الثاني للبنان, الذي تحقق بخروج القوات السورية منه لن يكتمل إلا بوجود رئيس جديد خارج عن نطاق الرئاسة السورية. بينما المعارضة المدعومة من سوريا وايران تري من جانبها, أن عملية اختيار رئيس الجمهورية في لبنان تتم دائما بالتوافق وليس بالأغلبية نظرا لطبيعة الوضع الطائفي في البلاد, وأن المعارضة تمثل قطاعا مهما من الشعب اللبناني لابد من مراعاته عند انتخاب رئيس جديد, خاصة أن الرئيس الجديد بحكم موقعه سيكون مسئولا عن موضوعات حساسة مثل مستقبل سلاح حزب الله, بالإضافة الي أن الأغلبية ستراعي المصالح الأمريكية والفرنسية عند اختيار الرئيس الجديدولابد من مراعاة المصالح السورية والإيرانية أيضا المرتبطة بقوة بالأوضاع اللبنانية. وللخروج من هذا المأزق, تستعد الشخصيات السياسية التي تمثل القوي الحزبية والتيارات المختلفة في لبنان للتوجه الي باريس للمشاركة في لقاء سان كلو الحواري غير الرسمي, الذي سيعقد أيام السبت والأحد والاثنين بدعوة من فرنسا, كخطوة علي طريق تقريب وجهات النظر بين الفرقاء, خاصة أن رئيس مجلس النواب نبيه بري بدأ في إشاعة أجواء تفاؤلية, مؤكدا أن الانتخابات الرئاسية ستجري في موعدها وستكون مفتاح الفرج, دون أن يغلق أبواب إمكان قيام حكومة انقاذية كحصيلة محتملة لنجاح مؤتمر باريس.