انفضَّ سامرُ الجامعة العربية بالقاهرة يوم السبت الماضي عن إعادة تقييم الموقف العربي إزاء مجريات عملية السلام المُعطلة وجدوى استمرار الالتزام العربي في طرح مبادرة السلام العربية كخيار استراتيجي، وكذلك إعادة النظر في جدوى مهمة اللجنة الرباعية ودورها. كما قرر مجلس وزراء الخارجية العرب زيارة لجنة وزارية لغزة تأكيداً للتضامن مع الشعب الفلسطيني في القطاع والوقوف على كافة احتياجاته الإنسانية ومتابعة ما يُستجد من تطورات. وما عدا ذلك فكلهُ إنشائيات معروفة احتلت أكثر من نصف مساحة البيان عن: إدانة العدوان الإسرائيلي على غزة وإخفاق مجلس الأمن في تحمّل مسؤولياته تجاه ما يجري على الساحة الفلسطينية، والتأكيد على قرارات القمم العربية السابقة فيما يتعلق بإعمار غزة ودعوة الدول المانحة للوفاء بتعهداتها في هذا الصدد، وتنفيذ المصالحة الفلسطينية اعتماداً على اتفاق القاهرة في مايو 2011 واتفاق الدوحة عام 2012 وتأييد دولة فلسطين في مسعاها للحصول على عضوية كاملة في الأممالمتحدة. جاء ذلك بعد تواصل العدوان الإسرائيلي على غزة لأكثر من أسبوع، الذي بدأ يوم الأربعاء قبل الماضي بالاعتداء على حياة القيادي في حركة "حماس" الشهيد أحمد الجعبري، وما تلاه من سقوط الشهداء يومياً (ليصل يوم الأحد الماضي إلى 90 شهيداً وأكثر من 700 جريح). ولا يمكن وصف هذا العدوان إلا بأنه عمل بربري يخالف الأعراف الدولية -حتى في حالات الاحتلال- ويتعارض مع طروحات إسرائيل الزاعمة أنها "حمامة" جريحة وسط جيران شرساء يتربصون بها. "عمود السحاب" وهو اسم العملية التي بدأتها إسرائيل ضد غزة يذكرنا بعملية أكثر شراسة وعنفاً عام 2008 وهي ما عُرف بعملية "الرصاص المصبوب"، وهي هواية تتفنن إسرائيل في ممارستها دون ضمير أو مراعاة لحياة الأطفال والشيوخ والنساء في المناطق المحتلة. وهذه العمليات لا تأتي جزافاً أو انتقاماً كما تروج وسائل الإعلام الإسرائيلية، بل إنها تأتي ضمن سلسلة تخطيط لتصفية المقاومة وقادتها، وإدخال الرعب داخل غزة حتى يستأنسوا الاحتلال إلى الأبد. كان سمو أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أول قائد عربي يحلُّ في غزة تعبيراً عن كسر الحصار وتقديم العون للفلسطينيين، وصرح سموه لقناة "الجزيرة" يوم الأحد الماضي بأن غزة أرض محررة وحان الوقت لرفع الحصار. وتلت تلك الزيارة زيارات لمسؤولين عرب مثل رئيس الوزراء المصري ووزير خارجية تونس، وكذلك اللجنة العربية التي من المؤمل أن تكون قد حلت في غزة. القضية اليوم تختلف عن أشكال الاعتداءات السابقة على الفلسطينيين! فالعالم العربي -حول إسرائيل- يموجُ بتحولات غاضبة لم تألفها منذ قيامها عام 1948. والقيادات العربية التقليدية -المُهادنة- ضمن اتفاقيات معاهدة السلام أيضاً تغيّرت، وما كان يمكن في السابق أن يُقابل الرصاصة بالدبلوماسية أو البكاء عند حائط مجلس الأمن، قد يكون في رحمة التاريخ. ويبدو أن الشارع العربي ما عاد يستسيغ زامرَ الجامعة العربية الذي يُكرر نفس الأغاني منذ عام 1948! ولقد أعرب بعض وزراء الخارجية العرب عن الحاجة لإعادة النظر في صلب الصراع العربي الإسرائيلي، وهذا يندرج ضمن أسلوب معالجة الجامعة العربية لتطورات هذا الصراع. وهو أمر بالغ الأهمية لوقف العدوان المتكرر على الشعب الفلسطيني، والاحتفاظ بالوقت والجهد في صياغة بيانات لا تقدم ولا تؤخر في مجريات هذا الصراع الذي يميل ميزانه دوماً لصالح إسرائيل. وكان الرئيس المصري محمد مرسي قد اعتبر ما جرى في غزة "عدواناً سافراً على الإنسانية"، مشيراً إلى أن مصر "لن تترك غزة وحدها"!. كما وجه مرسي تحذيراً مباشراً من أحد مساجد القاهرة لإسرائيل: "أنا أحذر وأكرر تحذيري للمعتدين، بأنه لن يكون لهم أبداً سلطان على أهل غزة". وكانت مصر قد سحبت سفيرها من تل أبيب وأمرَت السفير الإسرائيلي بمغادرة القاهرة، بعد العدوان الإسرائيلي الأربعاء قبل الماضي على غزة، فيما يبدو أنه تحوّل مصري تجاه العلاقات مع إسرائيل التي كان النظام المصري السابق يميل إلى التعامل بلينٍ واضح مع الاعتداءات السابقة التي تقترفها. ويُلاحظ أن الشارع العربي يموج بحماس كبير -عبّر عنه وزراء خارجية الدول العربية في القاهرة- لتنظيم حملة دبلوماسية دولية ضد إسرائيل، في الوقت الذي برز اتجاهٌ آخر يدعو إلى "التهدئة وإحكام العقل"، كما ورد في مكالمة هاتفية بين العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز والرئيس المصري محمد مرسي، ونقلت وكالة الأنباء السعودية عن الملك عبدالله قوله: "لابد من تهدئة الأمور وإحكام العقل وألا يتغلب الانفعال على الحكمة والتدبر". وفيما أعلن رئيس الوزراء المصري هشام قنديل أن مصر ستبذل جهودها حتى يتحقق السلام الدائم والشامل والعادل، وتُقام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، وأن هذا هو السبيل الوحيد الذي سيحقق الاستقرار، ويحققُ مصلحة جميع شعوب المنطقة، وأعلنت تونس "مساندتها المطلقة لكفاح الشعب الفلسطيني وإدانتها الكاملة للعدوان عليه". كما دعا رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني إلى "إعادة النظر بشكل كامل في عملية السلام واستراتيجية التعامل مع عملية السلام برمتها". ودعا إلى عدم إعطاء الفلسطينيين "الأمل الزائف دون تحقيق شيء". والسؤال الحاضر دوماً: هل ستبقى منطقة الشرق الأوسط، وبالذات الأراضي العربية المحتلة بذات الوتيرة، وذاتِ الأخذ والجذب، ولعب إسرائيل على الخلافات العربية العربية والفلسطينية الفلسطينية؟ وهل القيادات العربية الجديدة -غير المسؤولة عن معاهدات السلام- التي لم تفِ إسرائيل ببنودها سوف تُعيد النظر في تلك المعاهدات وتفرض واقعاً جديداً غير مألوف في المنطقة؟! وهل الإدارة الأميركية -مع سنوات أوباما الأخيرة- ستُبدي حماساً أكثر لاستمرار تلك المعاهدات التي رعتها؟ أم أن العرب سيفرضون واقعاً جديداً على الأرض يغير خريطة "التراث التاريخي" المُهادن، الذي يعوّل على تأجيل الألم الفلسطيني ولا يعالجه؛ ويدفع بمعطيات جديدة قد يكون من بينها مواجهة عسكرية بين العرب وإسرائيل؟ نقلا عن صحيفة الاتحاد