لم يعد الصراع في سوريا بين فريقين، معارض ومؤيد، فقد صارت سوريا ساحة للصراعات الدولية، وسوق تصفية الحسابات بين متنافسين كبار على مواقع الصدارة في العالم. ولم تكن حكاية المؤامرة الكونية في بداية ترويجها أكثر من هروب من مواجهة الحقيقة اتكاء على القابلية التاريخية عند العرب لفكرة المؤامرة الخارجية، ولكن الأكذوبة صارت حقيقة فعلاً حين نجحت خطة تدويل الصراع، وامتدت مساحته الزمنية لتوفر الوقت لرسم سيناريوهات التدخل الخارجي، بمعنى أن المؤامرة حدثت، وباتت كونية فعلاً، ولكنها لم تأت ضد النظام، وإنما بدت مؤامرة كبرى على سوريا، وعلى العرب جميعاً. ولعل كثيراً من المشككين بقدرة الشعوب على فعل أي شيء إيجابي، سيصرون على أن "الربيع العربي" كله هو نتاج مؤامرة، وأن كبار قادة الاستخبارات في العالم المعادي للعرب اجتمعوا سراً بالبوعزيزي البائع الجوال على عربة في بلدة تونسية مهمشة، ودفعوا شرطية لضربه، وتعهد لهم البوعزيزي بأن يحرق نفسه بعد تلقيه الصفعة كي يسقط عرش رئيس تونس، وتمتد شرارة عود ثقابه إلى ليبيا ومصر واليمن وسوريا! والمفارقة أن هذا التصور الذي يبدو مضحكاً يتبناه مفكرون ومثقفون كبار لم تتحمل عقولهم صدمة أن يكون البوعزيزي وأمثاله من بسطاء الناس أهم منهم في صناعة التاريخ، وهم الذين قدموا أنفسهم على مدى عقود بأنهم فلاسفة العصر. ولا يمكن تجاهل السياق التواصلي بين الثورات في الجمهوريات العربية، وحسب المتأمل أن يرى ما حدث في المغرب حين كانت استجابة الملك عاقلة كيف عاد الناس إلى أعمالهم وقبلوا خطة الإصلاح، ولو أن القادة الآخرين عالجوا الموقف بقليل من التواضع والحكمة والاعتراف بحق الشعوب في الحرية والكرامة (وهما المطلبان الوحيدان في شعارات المظاهرات السلمية) لأحبطت المؤامرة التي كانوا يتخيلون، ولكن بعض القادة خافوا من هذا التنازل أمام الشعب لأنه حسب ما ظنوا يكسر هيبة الدولة (وهي ذات الدولة التي كسروا عظامها ومزقوا لحمها)، كما أنهم خافوا أن تتوقف مصالحهم الشخصية، فبعضهم آثر أن يتصرف بعقلية صاحب شركة عائلية، بدل أن يتصرف بعقلية رئيس دولة، وبعضهم أخذته العزة بالإثم، ونجحت خطة خلط الأوراق فاستخدمت كل أدوات تمزيق الشعب الذي حمل أغصان الزيتون فواجهه سيل الرصاص. كان لابد بعد صبر طال من أن يدافع الناس عن أرواحهم فانتقلوا من السلمية إلى الدفاع، وانتصر أصحاب الضمائر الحية من ضباط الجيش وهم جميعاً بعثيون، لأن الجيش السوري جيش عقائدي لا يدخله إلا بعثيون، وهم على الغالب ممن دخلوا في الحزب لأنهم لا يجدون طريقاً آخر. ومع اشتداد الصراع وتحوله إلى مجازر يومية يقتل فيها المئات كل يوم، تمكن كبار قادة المجتمع الدولي من إحكام مؤامرة حقيقية وجادة هذه المرة، ولكنها أحكمت ضد سوريا كلها، وكان الهدف المتفاهم عليه (دعوا السوريين يقتل بعضهم بعضاً، ويدمرون سوريا فنخلص منها كما خلصنا من العراق، ولئن كنا اضطررنا لخوض حرب كبيرة وإقامة تحالف دولي ضخم لهدم العراق وتفتيت قوته، فإن ما يحدث في سوريا يحقق ما نريد بأيدي السوريين أنفسهم دون أن نبذل عناء أو ندخل حرباً) وهذا ما يفسر صمت المجتمع الدولي، وتلكأه وإصراره على مد أمد الصراع، وعلى المعالجة بالمسكنات عبر مبادرات الدابي وعنان والإبراهيمي، وعبر افتعال "الفيتو" الروسي والصيني، وتبرير تلك المسرحيات الهزلية بانقسام المجتمع الدولي حول القضية السورية. وأنا واثق أنه لا يوجد انقسام حقيقي، وإنما هناك توزيع أدوار، ضمن لعبة دولية تريد أن ترى سوريا ضعيفة منهكة، وهي بعد نهاية الدمار ستخذل النظام الذي تدعي أنها تقف إلى جواره، وعندها ستكون إسرائيل مطمئنة إلى أمنها المستقبلي، وهو الهدف الأكبر لدى قادة المجتمع الدولي، فالسوريون سيعودن من المنافي والشتات مشغولين بإعداد مخيمات لسكن ملايين من المشردين الذين دمرت بيوتهم، وستقع الحكومات السورية في اضطرابات ما بعد الثورة التي ستأكل أبناءها في صراعاتهم المتوقعة على السلطة، وستكون مشكلات تمويل إعادة الإعمار مأساة كبرى، ولن يفرغ أحد لشيء من مشاريع سوريا القومية. والفاجعة الأكبر التي أحدس بها خشية أن تصير حقيقة، هي احتمال ظهور تيارات يتراجع عندها الشعور بالكراهية نحو إسرائيل إلى المرتبة الثانية، بعد أن بدأ السوريون يكتشفون أن هناك عدواً داخلياً أخطر عليهم من إسرائيل، ولاسيما أن الكوارث التي حلت بالسوريين وطرق القتل الجماعي بالذبح والإبادة لم تكن أقل بشاعة مما فعل الإسرائيليون بالفلسطينيين، بل إن ما كنا ندرسه عن مجازر كفر قاسم ودير ياسين وما عشناه من الحرب على جنوب لبنان وغزة ورأينا فيه فظاعة وحشية الإسرائيليين، كله لا يعادل ما ذاقت حلب وحدها من دمار، فكيف إذا أضفت إليها مجازر بابا عمرو والحولة وبانياس والحفة ودير الزور وريف إدلب وحماه وفوق ذلك كله ريف العاصمة الذي لم تتوقف المجازر فيه ليلة واحدة منذ عشرين شهراً. وربما يستغرب قارئ اتهامي للمجتمع الدولي بالرغبة في تهديم سوريا، ويقول هل حقاً يريد قادة المجتمع الدولي الكبار أن يروا سوريا مهدمة؟ وأضيف له أنهم يريدون أن يروا الوطن العربي كله مهدماً منهكاً ضعيفاً، لقد قال كبار من مفكري الغرب ومنهم برنارد لويس وبعده هنتنغتون "إن الإسلام جعل أوروبا تعيش على قلق ألف عام"! ومشكلة انتشار الإسلام في أوروبا بدعم عربي مقلقة للصهيونية التي تسعى إلى إحياء النزعة الصليبية في أوروبا. ولم يكن سراً شعارهم "نريد عالماً بلا إسلام" وقد زجوا الولاياتالمتحدة في حروب متلاحقة ضد العرب والمسلمين، وحين لم تفض هذه الحروب إلى تحطيم نهائي للخصم، بدأت سياسة الاحتواء المزدوج، وهذا ما يفسر القبول الدولي الحذر والمضطر للتعامل مع قوى إسلامية صاعدة على مبدأ اقتل عدوك من داخله. ومع أنني ضد التدخل العسكري الأجنبي في سوريا وأتفاءل بحل داخلي، إلا أنني وكل السوريين غاضبون من التجاهل الدولي لتدمير سوريا، مع تقديرنا وامتناننا لمن قدموا دعماً إغاثياً لشعبنا على رغم كونه أقل مما نحتاج ومما يستطيعون. وفصل الشتاء القادم مرعب لمن يفترشون الأرض في العراء، ويلتحفون السماء. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية