في 1978 بدأت الصين في ظل دينج هسياو بنج الانفتاح على العالم الخارجي وعلى الرأسمالية. آنذاك كانت الماوية و"ثورتها الثقافية البروليتارية العظمى" قد أفضتا إلى كوارث محققة على الأصعدة جميعاً، وكان لابد من تغيير نوعي يضع حدّاً لما يجري. وبالفعل قاد هسياو بنج، أحد ضحايا "الثورة الثقافية"، هذا التغيير الذي لم تعد الصين بعده مثلما كانت قبله. يكفي القول إنّ ذاك البلد- القارّة يحتضن اليوم الاقتصاد العالمي الثاني (بعد الولاياتالمتحدة الأميركية)، متفوّقاً على اليابان وألمانيا. ولكنّ ما فعله هسياو بنج، بما فيه فتح الباب أمام قيادات جديدة أكثر شباباً وأقل تزمتاً، جاء يعلن نهاية الزعماء التاريخيين الذين التقت الثورية الشيوعية والمحافظة الآسيوية على تمجيد أبويتهم. فالشيوعيون باتوا يعقدون مؤتمراً عامّاً كل خمسة أعوام كما يغيّرون معظم قياداتهم كل عشرة أعوام. وخلال هذا الأسبوع انعقد مؤتمرهم الحزبي الجديد، الثامن عشر، الذي حظي، ويحظى، باهتمام عالمي مردّه أنه سوف يشهد تغيير القيادة فيما يُفترض أن يؤثر أيضاً على مستقبل البلد. هكذا التقى أكثر من 2200 مندوب يمثلون أكثر من 83 مليون حزبي صيني، حيث سيتنحّى، بسبب التقدم في السنّ، سبعة أعضاء من أصل تسعة هم مجموع المكتب السياسي. وسيكون على رأس المتنحّين هاو جنتاو نفسه، وهو قائد الحزب ورئيس الدولة، كما سيرحل معه وِن جياباو، رئيس الحكومة، ليحل في قيادة الحزب ورئاسة الدولة نائب الرئيس الحالي كسي جنبنج ومعه طاقم جديد. عند هذا الحد يقف تحديث الحياة السياسية والحزبية في الصين الشيوعية. وهو، بالمناسبة، ليس بالأمر البسيط قياساً بما كان سائداً في ماضٍ غير بعيد، إذ يكفي التذكير بأنّ حياة وموت عشرات ملايين الصينيين ظلّت، حتى 1978، تتعلق مباشرة بمزاج زعيم كماو تسي تونج، وبالأفكار التي قد يتوصل إليها في ما بينه وبين نفسه ثمّ يطبقها بالقوة والحديد على البلد ومواطنيه. هذا ما حدث إبان "القفزة الكبرى إلى الأمام" في الخمسينيات، ثمّ مع "الثورة الثقافية" سيّئة السمعة في الستينيات. لقد انتهى هذا كلّه فعلاً، وصار الصينيون المتحررون من الأبوّة الثقيلة، أكثر تعرضاً للخارج وأكثر سفراً بلا قياس. لكن ما لم ينته أنّ القرارات الحزبية الكبرى، بما فيها اختيار القادة الجدد، لا تزال مهمّة قبضة حديدية، وهي إنما تُتخذ في الكواليس قبل أن تهبط على باقي المندوبين الحزبيين بحيث يصوتون موافقين بالإجماع عليها. وغني عن القول إنّ هذا الواقع الذي سلّط الضوء عليه أكثر من مراقب وصحفي غربي، ضد المزاعم التي ترددها القيادة عن التصويت الديمقراطي من القاعدة إلى القمة. بيد أنّ التقليد هذا يستند إلى المعادلة الأعرض التي يقوم عليها النظام الصيني، ألا وهي الجمع بين حكم الحزب الواحد (وهو هنا الحزب الشيوعي) وبين درجة بعيدة جداً من الليبرالية الاقتصادية. وقد امتُحنت هذه المعادلة امتحانها الكبير في 1989، في موازاة الانتفاضات التي كانت تشهدها يومذاك بلدان الكتلة السوفييتية. لكنْ، وكما هو معروف، قُمعت بشراسة تلك الحركة التي اعتصمت وتجمّعت في ساحة تيان أن مين، في بكين العاصمة، في ما عُرف ب"حادثة 4 يونيو" التي أسفرت عن قتلى تراوح عددهم بين مئات كثيرة وآلاف قليلة. لقد كانت تلك المذبحة تكريساً لمبدأ حكم الحزب الواحد وتأكيداً على أنه لن يتغيّر بسهولة. ومن هذا القبيل كان استمرار أزمة "المنشقين" الذين يظهر كل فينة رمز من رموزهم المطالبين بالديمقراطية، وقد ينتهي سجيناً أو منفيّاً إلى الولاياتالمتحدة. وهذا إنّما ينمّ عن تناقض يستحيل أن يستمر إلى ما لا نهاية، كما تستحيل السيطرة الدائمة إليه، مفاده أنّ الحرية الاقتصادية تستدعي الحرية السياسية، تماماً مثلما يستدعي الاستبداد السياسي، في غالب الأحيان، سيطرة الدولة على الاقتصاد. ومع ذلك فالحزب الشيوعي الصيني اليوم غيره بالأمس. ففضلاً عن التعاظم الهائل في عدد الأعضاء، بات ذاك الجسد الضخم يطوي في داخله كتلاً قد يصعب التوفيق في ما بينها، تمتد من شيوعيين يقفون "على يسار" الحزب، بعضهم لا يزال يحنّ إلى الماضي الماويّ، إلى شيوعيين "على يمين" الحزب يمثلون مصالح "البيزنس" الجديد كما يطالبون بتفكيك ما تبقى من مؤسسات وإجراءات موروثة عن ذاك الماضي. وهؤلاء إذا كان يجمع بينهم ما توفره الحزبية لهم من مكاسب أو نفوذ، إلا أنّ قدرتهم على تجاوز تناقضاتهم لابدّ أن تتضاءل تحت وطأة تطورين كبيرين: الأول هو الثراء الذي باتت الصين تتمتع به، والمخاوف الراهنة من أن يتراجع النمو الصيني من 10 في المئة إلى 7 في المئة، وهو ما يرى كل واحد من أجنحة الحزب أنّ الأجنحة الأخرى متسببة فيه. أمّا الثاني فهو الدور الإقليمي والدولي البارز الذي أضحت الصين تحظى به، وصولاً إلى أفريقيا والشرق الأوسط. وهذا، بدوره، صار أكبر وأهم من أن يُهمل. فهناك الآن ما يستحق النزاع عليه. وقصارى القول إنّ الصين اليوم قد لا يكفيها اختيار قيادة حزبية وسياسية جديدة، بل قد يكون عليها أن تختار نهجاً جديداً أيضاً. فحينما قُمعت حركة ساحة تيان أن مين، أشاعت الدولة الصينية وحزبها الحاكم أنهما ليسا ضدّ الإصلاحات التي يطالب بها الطلبة والمثقفون وحلفاؤهم. ولكنهما أضافا أنّ تلك الإصلاحات تحصل تدريجاً وسلماً كي لا ينفجر الوضع الصيني كما انفجرت أوضاع روسيا وبلدان أخرى كانت تنضوي في كتلتها. وأغلب الظنّ أنّ الوقت قد حان لإحداث مثل هذه الانعطافة، اللهمّ إلا إذا كان بعض القادة في بكين يقلّدون قائداً روسيّاً كفلاديمير بوتين يريد، هو الآخر، الحجر على كل تحول ديمقراطي قد يشهده بلده. نقلا عن صحيفة الاتحاد