تتنافس الدول اليوم في صناعة الكتاب وفي استقطاب المثقفين والاهتمام بالأدب والفنون كإرث حضاري وكهوية تحاول أن تسير بها أو تعرف بها في المستقبل، لكن الواقع لم يكن كذلك قبل 30 عاماً عندما نظمت الإمارات أول معرض للكتاب في الشارقة، واهتمت الدولة باستقطاب كبار المفكرين والشعراء والأدباء لإحياء مواسمها الثقافية التي كانت تستمر على مدار العام وتشمل جميع أنحاء الدولة. كانت البداية صعبة لكن الأحلام كانت كبيرة. وكثيرون راهنوا على أن تلك "الفورة" لن تتخطى مرحلة "الحبو" كما هي متطلبات مرحلة نشوء الدول وأنها ستتعثر وستنتهي، فهي مجرد مزاجية وحماس البدايات كما صوّرها بعضهم! فدول النفط -كما كانوا يسمونها- لا تصنع ثقافةً ولا تتقبل الكتاب، وهي مجرد دول استهلاكية تنتشر فيها الأمية ولا تقوى على تقبل الفكر ولا يمكنها أن تدعم المشروع الثقافي العربي! هكذا كانت نظرة بعض شعراء وأدباء ورؤساء دول عربية لها ثقل حضاري يفرض عليها أن تقود وتحرك الأمة نحو الأمام، لكنهم ساروا بها نحو مسالك مختلفة وأنفاق مظلمة. تلك هي الصورة التي حاولوا ترسيخها عن خليج البترول وأهله، كما حاولوا أن يمارسوا عليهم التهميش والإقصاء. لكن محاولات فرض التبعية لدور المحور جميعها فشلت بعد تجارب وخيبات، لأن الدول الجديدة الغنية بالنفط والطيبة كانت تحمل الصدق وحسن النوايا في رسالتها وتعاملاتها. إن هذه الدول التي اتهمت ب"نقمة النفط" و"الرجعية" و"البداوة" وغيرها من مصطلحات الصحافة الصفراء في شارع " اجورد روود" بلندن، والتي كانت تنشط وتتنافس في هجاء الخليج وأهله، وعلى ألسنة مثقفي وشعراء وكتّاب غذتهم وصنعتهم ودعمتهم أنظمة عربية أسقطتها شعوبها بعد أن تبينت حقيقة الوهم الذي عايشته وحالة الاستنزاف والنهب التي تعرضت له تلك الأوطان تحت تلك الأنظمة. تلك الحروب العربية التي شُنت أزمنةً طويلةً أثبتت فشلها وقسوتها على إنسان هذه المنطقة تحديداً، فعندما تغيرت المعادلة، وأصبحت هذه الدول تملك مفاتيح صناعة الإعلام وتساهم في تغذية ونشر الثقافة العربية بمختلف فنونها ومدارسها، اكتشف المثقف العربي أن دول مجلس التعاون الخليجي هي سنده في أزماته وهي التي حاولت فعلا تغذية صناعة هذه الثقافة. الإمارات -لو ينصفها كتّاب التاريخ- هي أكثر وأكبر الدول العربية دعماً للمثقف العربي ولصناعة الكتاب ولنشر الثقافة العربية والإسلامية، وأوسعها أحلاماً وإخلاصاً لمستقبل هذه الثقافة. لقد سعت ولا تزال إلى أن تكون هذه الأمة وثقافتها رائدةً تنافس الثقافات العالمية الأخرى. نتحدث عن مشروع تنموي مستمر لنشر الثقافة وصناعة الكتاب من خلال معارض عريقة أصبحت اليوم محطات دولية في صناعة الكتاب، مثل معرضي الشارقة وأبوظبي للكتاب، أو عن جوائز مرموقة تكرّم المثقف الحقيقي مثل جائزة زايد للكتاب وجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية أو جائزة "البوكر" العربية التي تستضيفها وتدعمها أبوظبي بهدف إبراز الروائي العربي وتقديم الرواية كعمل فني مميز له شهرة ومكانة في المكتبات العالمية. وماذا عن مشروع رائد مثل مشروع "كلمة" الذي غذى المكتبة العربية بأكثر من 700 كتاب مميز، وساهم في رفد المكتبة العربية بإصدارات نوعية وتشجيع صناعة الترجمة ودعم المترجمين ودور النشر العربية؟ واليوم يأتي ومعرض الشارقة للكتاب الذي يحتفي بدورته التي تحمل الرقم 31، ما يعني مفصلا جديداً في مسيرة هذا العمر الطويل والمتواصل من العمل الثقافي. فكم يكلّف هذا النشاط إذا حسبناه مادياً؟ وكم خسرت عليه الإمارة؟ المشاركات ظلت طوال تلك السنوات مجانية، بالإضافة إلى دعوات شرفية للضيوف لحضوره أو لإحياء النشاط الثقافي طوال أيامه، وكذلك حملات ترويج وتسويق المعرض. كم تقدر أيضاً تكلفة الشراء التشجيعي الذي تقوم به مؤسسات الدولة، عدا عن إقبال الجماهير، وبعد ذلك كله تشتري الشارقة من جميع العارضين إصداراتهم الجديدة وتوزعها على مكتبات وأهالي الإمارة. هذا الجهد تكرر على مدار ثلاثين عاماً، في خسارة مادية، في حساب المال والأعمال، لكن صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة يقول إن الإمارات والشارقة والثقافة عموماً مكسبها من ذلك ثمين لا تساويه النقود، لقد كسبت الثقافة والعلم والمعرفة. وقبل أشهر كان صاحب السمو حاكم الشارقة يتحدث لجمهوره في الإذاعة، حديثاً عفوياً كيف أن هذا المعرض طوال سنوات إقامته كان يمثل له هاجساً ومصدرَ فرح، يفتتحه في الصباح، وكان قد زاره في مساء الليلة التي سبقت الافتتاح واطمأن على ترتيباته وعلى رضا الناشرين، ثم يزوره كأي فرد من الجمهور طوال أيام إقامته، ويكون قد قرأ فهرست المعرض وتعرّف على عناوين الكتب وأسماء المؤلفين. فمن يمكنه القيام بهذه المهمة اليوم، أي قراءة كشاف يحوي ما يزيد على ربع مليون عنوان كتبت بخط صغير متراص الحروف؟ وأي حاكم عربي يمكن أن يمارس هذا الدور ثلاثين عاماً، لا يمل ولا يتعب؟ إنه مثابرة عاشق للمشروع الثقافي، من جعل الكتاب هاجساً وملهماً. المعرض -كما ذكر صاحب السمو حاكم الشارقة في ذلك اللقاء- ولّد عنده قصيدة فصيحة طويلة هي "منابع العز" نظمها في ليلة واحدة، وفي كل دورة يحرص أن يكون له إصدار جديد يغني المكتبة العربية في مجاله التخصصي. الوعي الذي صنعه هذا المعرض وتلك النشاطات المتواصلة، هو الذي يبقى لأنه استثمار في الإنسان. فأن ينمو الطفل وتكبر الأسرة في محيط مثل هذا، يصحو وينام على ذكر الفعل الثقافي، يعني أن الثقافة ستكون في وجدانه وسلوكه واهتماماته، وسترتبط بمستقبله ونهج حياته. الطفل الذي ذهب مع والده إلى الدورة الأولى لمعرض الكتاب، وكان في مرحلة الروضة مثلا، وواظب على زيارته كل سنة، كم عمره اليوم؟ وما هو شعوره عندما يدخله مع أطفاله هذه المرة كما كان والده يفعل معه؟ الثقافة فعل تراكمي، وقد يكون هذا الحراك الثقافي الذي اشتغلت عليه الإمارات طوال سنوات الاتحاد هو أهم مكسب استراتيجي في مسيرة المجتمع وتنمية الدولة. نقلا عن صحيفة الاتحاد