في سياق التعريف العلمي الدقيق لمقولة الدولة الوطنية في العالم العربي في إطارها وتعريفاتها التقليدية، فإن مصر هي الدولة العربية الحديثة الوحيدة التي يوجد فيها تجانس نسبي في الكثافة السكانية، وشعبها لديه شعور قوي بالماضي، وتنظيم بيروقراطي عريق، ووحدة في المقصد السياسي، وهي عناصر مهمة تؤهلها بأن يطلق عليها دولة-وطنية حديثة. وبهذا المعنى فإن مصر تخدم كأنموذج لكل من الدولة الوطنية والصحوة الإسلامية، خاصة بعد أن قامت فيها ثورة الشباب العلمانيين الوطنيين فيما يطلق عليه مجازاً بالربيع العربي منذ 25 يناير 2011، وجنى ثمار تلك الثورة "الإخوان المسلمون". إن مصر تحاول حالياً أن تلملم ذاتها، وأن تخرج من الأنفاق المظلمة التي أدخلتها فيها نخبها السياسية منذ أن تسلم أنور السادات السلطة عام 1970 إلى أن قامت ثورة 25 يناير. لذلك فإن مصر تحاول في هذه المرحلة أن تستعيد وضعها كقوة عربية إقليمية لها ثقلها السياسي والاستراتيجي في العالم العربي، ومصر والمصريون لا يريدون العودة إلى الشعارات والمواقف القوية السابقة، لكنهم يريدون أن يثبتوا للعرب الآخرين بأنهم لا يمكنهم المضي قدماً دون وجود مصر بينهم. إن موجات المد الإسلامي السابقة والحالية لها تأثيراتها المباشرة على الاستقرار السياسي في مصر، ففي بلد تم فيه تداول السلطة من قبل أنظمة حاكمة تعد بأقل من أصابع اليد الواحدة منذ 1954، تم تحدي الاستقرار من خلال الاغتيالات والهجوم على الأماكن العامة والتفجيرات واستهداف الأقلية المسيحية ثم الثورة الشعبية في آخر المطاف. ولكن عن طريق الاستجابة إلى مطالب الجماهير من قبل الرئيس الجديد والبرلمان المنتخب، وعن طريق إعادة تأهيل المجتمع على قواعد من الأسس الديمقراطية الحديثة القوية، تحاول مصر وضع قدميها على طريق التنمية الحقيقية التي فاتها الكثير منها حتى الآن مقارنة بالأمم والشعوب الأخرى بما في ذلك دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ودول شرق آسيا وجنوب شرقها والصين والهند، وهي جميعها دول بدأت فيها حركة التنمية الاقتصادية في مراحل متأخرة جداً مقارنة بمصر التي بدأت فيها حركة النهضة والتنمية منذ زمن محمد علي باشا. الطريق التي ستسلكها مصر على مدى المستقبل المنظور غير واضحة المعالم حتى الآن، خاصة على ضوء التغيرات الداخلية التي حدثت في صفوف قادة القوات المسلحة، وتفجيرات سيناء وغيرها من أحداث مهمة، فالعلاقات المتداخلة بين الأحزاب والجماعات الإسلامية، والإسلام التقليدي من خلال علماء الدين التقليديين ومؤسسة الأزهر، والإسلام كدين للأغلبية الساحقة، والبيروقراطية الضاربة في الجذور والتي يغلف الكثير من ممارساتها الفساد والمحسوبية وربما الغموض، والقيادة العسكرية، والأقلية المسيحية القبطية، والثوار الشباب أصحاب ميدان التحرير الذين قدحوا شرارة الثورة، بالإضافة إلى عدم تجانس الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، تجعل من الحلول السهلة للمشاكل القائمة التي ولدت الثورة أساساً صعبة المنال. إن مصر ستستمر في مواجهة التطرف الديني الذي أطل برأسه مؤخراً في سيناء، حتى وإنْ سيطرت الأحزاب الدينية، خاصة "الإخوان المسلمين" على البرلمان الجديد. لذلك فإن على القيادات المصرية الجديدة من سياسيين وعسكريين أن يوازنوا بين تلك الأنماط المتضادة لكي يحافظوا على هيبة الدولة وعلى السلم الاجتماعي الداخلي فيها، وهذه ليست بالمهمة السهلة إذا لم تكن صادقة يتم من خلالها استبعاد أي تهميش لأية فئة اجتماعية أو تيار سياسي بعينه. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية