يروي أندريه مالرو في مذكراته أن الزعيم الفرنسي شارل ديجول عندما دخل باريس محررا من قبضة النازي لم يكن يفكر سوي في كيفية رد الاعتبار لكرامة فرنسا ولم يكن ذلك ممكنا بالنسبة له, سوي بالدخول في عصر الطاقة النووية وحيازة السلاح النووي ثم وهو الأهم الاحتفاظ بالسيادة الوطنية علي هذا السلاح. وهكذا أطلق الزعيم الراحل الوكالة القومية الفرنسية للطاقة الذرية فور عودته للسلطة عام1958 بعد أن قضت فرنسا نحو10 أعوام في تشكيل كوادر فنية عسكرية تعمل في مجال الذرة بالإضافة إلي الكوادر العلمية والبحثية الموجودة أصلا بفرنسا والتي حاول هتلر بكافة الطرق الاستحواذ عليهم قبل أن يفروا إلي الولاياتالمتحدة دون فائدة. وفي أواسط الستينيات اطلقت فرنسا أول تجربة نووية لها في صحراء الجزائر لتتوالي التجارب في المحيط الهادي في مستعمراتها القديمة ولينتج من كل هذا تطور عسكري مثير في القدرة النووية الفرنسية واستقلال سياسي عن المظلة النووية الأمريكية علي أوروبا. وعندما وقعت مأساة تشرنوبيل في أواسط الثمانينات كانت فرنسا من أوائل الدول في العالم التي بدأت أبحاثا متعمقة حول الذرة النظيفة أو الطاقة النووية التي تستجيب لمطلبين مهمين: أ أقصي درجات الأمان. ب أقصي درجات الحفاظ علي البيئة. وجعلت هذه الأبحاث المبكرة منذ نحو ربع قرن من فرنسا أول دولة في العالم في صناعة الطاقة النووية السلمية حيث تحتكر وحدها ثلث انتاج العالم من الطاقة النووية وهناك مشاريع لتجاوز هذا المستوي بدءا من عام2011 بأرباح سنوية تبلغ نحو20 مليار يورو, وإذا كانت فرنسا قد استطاعت تغطية60% من احتياجاتها من الكهرباء من الطاقة النووية, وهناك خطط لأن تكون80% في الأعوام الخمس القادمة فإنها قد فتحت في السنوات العشر الأخيرة باب التصدير لخبراتها ومنتجاتها في هذا المجال لتصل الي أرقام مثيرة فيما يبدو وكأنه غزو للعالم بشكل هادئ ودون إثارة كما تبينه الأرقام التالية: الطاقة النووية الفرنسية في100 دولة لقد وزعت فرنسا مصانعها للطاقة النووية في40 دولة في العالم إلا أنها تتعامل بشكل أو بآخر في هذا المجال مع100 دولة بعقود تتراوح من18 مليون يورو كما سنري في حالة سلطنة عمان الي6 مليارات كما في حالة الصين. وعندما نقول الطاقة النووية الفرنسية فإننا نعني بهذا شركة أريفاAREVA بالدرجة الأولي وهي أول مجموعة لإنتاج الطاقة النووية علي مستوي العالم وتتجاوز من وقت لآخر منافستها اللدودة الأمريكية وستنجهاوس خاصة في دول العالم الثالث ولكن للمنافسة بين هاتين الشركتين العملاقتين قصة أخري مثيرة تدخل فيها خيوط الصراع والتنافس الفرنسي الأمريكي وربما تحتاج لمقال آخر. غير أن هناك شركة فرنسية أخري عملاقة تعمل في مجال انتاج الطاقة الكهربائية ونعرفها في مصر والعالم العربي وتبلغ استثماراتها في العالم نحو30 مليار يورو. وتبدو الشركتان الفرنسيتان المملوكتان تماما للدولة الفرنسية كذراعين مكملتين وتبدو لبعضهما في أحيان كثيرة حيث تنتج أريفا المفاعلات النووية التي تنتج الكهرباء بينما تختصEGF بالانتاج الكهربائي ذاته ولوازمه ومشتقاته, وقد استطاعت فرنسا عن طريق هاتين الذراعين التحكم في خطوط صناعة الطاقة النووية في العالم من البحث عن اليورانيوم إلي تصديره وإلي تصنيعه ومن انتاج المولدات النوويةr'eacteus في مصانع خاصة فائقة السرية إلي انتاج المفاعلات النووية ذاتها بطريقة التركيب الخاصة بصناعة الطائرات حيث يصنع كل جزء في مصنع خاص في مدينة مختلفة ثم تركيب المفاعل وكل ذلك يتم في سرية فائقة ورقابة دائمة ودرجات أمان قصوي للعاملين في المصانع ومعاملة خاصة جدا للمهندسين والخبراء والباحثين العاملين في مراكز أبحاث أريفا, فلا يعرفهم أحد ولا يتصلون بأحد, فالعقول في هذا المجال تساوي ثروات بمليارات الدولارات. خصوصية المفاعل النووي الفرنسي من الجيل الثالث جري الحديث كثيرا عن المفاعل النووي الفرنسي المعروف باسمEPR حيث تسعي دول كثيرة في العالم للحصول عليه ومنها الصين والولاياتالمتحدة وانجلترا واليابان ومن الدول العربية لبيبا, فما سر هذا المفاعل؟ كما هو معروف فإن صناعة المفاعلات النووية تتطور وتشكل أجيالا تماما كما هو الحال في صناعة الطائرات أو الكمبيوتر أو حتي التليفون المحمول. وقد تفوقت فرنسا بشكل مثير علي الولاياتالمتحدة في تطوير الجيل الثاني من صناعة المفاعلات لتدخل وحدها عصر الجيل الثالث بالمفاعلEPR وهو اختصارEvolutionarPowerreactor الذي انتجت فرنسا واحدا فقط منه ليس في فرنسا نفسها بل في فنلندا وهي في طريقها لبناء المفاعل الثاني من منطقة كاديراش بجنوب فرنسا, ومن المقرر أن يكون المفاعل الفرنسي الثالث في الولاياتالمتحدة ثم الرابع في الصين وهو ما يستحق وقفة قصيرة. الصراع بين الصين والولاياتالمتحدة علي المفاعل الفرنسي لقد تكشف في شهر يوليو الماضي فقط أسرار صراع خفي بين الولاياتالمتحدة والصين للحصول علي مفاعلEPR مع العلم بأن فرنسا لن تعطي أبدا الأسرار التكنولوجية الهائلة لهذا المفاعل لأحد خاصة الصينية ومن هنا جاءت الثورة التي أثارتها أنباء مفاوضات فرنسية صينية لتوقيع عقد اسطوري ببناء4 مفاعلات من الجيل الثالث للصين حيث تخوف الفرنسيون من قدرة الصينيين علي المحاكاة والتقليد كما أن فرنسيين كثيرين رأوا انه لايجب إعطاء الولاياتالمتحدة الثقة الكاملة في هذا المجال, فهناك اعتبارات عسكرية واستراتيجية فرنسية لابد من أخذها بعين الاعتبار وهو ما يطلق عليه الفرنسيون منطق الدولة في مقابل منطق الشركة وهو منطق تجاري بحت. في كل الأحوال تم الإعلان عن فوز شركة أريفا بعقد يبلغ6 مليارات يورو لبناء4 مفاعلاتEPR ولكن بدون تسليم التكنولوجيا أو ما يطلق عليه بالفرنسية تسليم الشقة دون مفتاح. أما في الولاياتالمتحدة فقد أعلن في3 يوليو الماضي عن تسليم القطعة الرئيسية لأول مفاعلEPR تم تصنيعها في مصنع أريفا بمدينة شالون سان مارسيل بمنطقة سون لوار بوسط فرنسا غير أن هذا المفاعل الأول لن يعمل قبل عام2015. وتكشف بعد ذلك ان الشركة الفرنسية هي أول مصدر للطاقة في الولاياتالمتحدة ولها فروع وشركاء في40 مدينة أمريكية وتبلغ استثماراتها في الولاياتالمتحدة3 مليارات دولار سنويا بأرباح تبلغ1,7 مليار عن عام2006 فقط غير انه من غير المعروف درجة تسليم التكنولوجيا أو الافصاح عن أسرارها في التعامل مع الولاياتالمتحدة وهو جانب خفي في التعامل في سوق الطاقة النووية تدخل فيه اعتبارات مخابراتية أمنية قد لانعرفها أبدا. أما في عالمنا العربي فقد وقعت أريفا بالفعل مع ليبيا خلال زيارة ساركوزي رسالة نواياTetterl'intentions سوف تفضي إلي عقد يوقع خلال زيارة القذافي القريبة لفرنسا, إلا أن الأمر يقتصر علي مفاعل من الجيل الثاني إن لم يكن الأول لأن اسرائيل لن تقبل ان يكون في ليبيا مفاعلEPR ولا حتي من النوع المصنوع للصين وتبلغ قوته ألف ميجاوات. كما وقعت أريفا العام الماضي عقدا ب18 مليون يورو لبناء محطات كهربائية ثم عقد آخر مع الإمارات لبناء محطات كهربائية فائقة التكنولوجيا بمبلغ70 مليون يورو. الطاقة النووية في قلب مشروع اتحاد البحر المتوسط لساركوزي كل هذه التحركات الفرنسية لم تظهر علي السطح إلا مع وصول الرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي الي الحكم في فرنسا في يونيو الماضي. والواقع أن رغبته في انشاء اتحاد لحوض البحر المتوسط علي غرار الاتحاد الأوروبي يهدف ضمن ما يهدف الي بسط المظلة النووية الفرنسية علي سائر حوض البحر المتوسط ولكن بمباركة أمريكية ويحقق بهذا أهدافا مجتمعة بضربة واحدة وهي تلخيصها كالتالي: 1 تخليص فرنسا من بضاعتها النووية القديمة( مفاعلات الجيلين الأول والثاني) 2 إرضاء العالم العربي وطمأنته مقابل سكوت الغرب علي امتلاك اسرائيل للقنبلة الذرية 3 توجيه رسالة لإيران أو بمعني آخر تزويد العالم الإسلامي السني بالطاقة النووية السلمية التي يمكن عند الحاجة تحويلها لأهداف عسكرية كما ذكرت صحيفة لوفيجارو في تقريرها المثير عن الطاقة النووية والعالم العربي( لوفيجارو31 اكتوبر2007) في كل الأحوال يبدو أن صفحة جديدة قد فتحت في ملف الشرق الأوسط وهو ما يفضل المراقبون الحالمون في باريس قوله في مقابل ما يقوله غير الحالمين بأن الذي فتح في واقع الأمر هو قمقم فيه مارد رهيب..