هناك قضيتان مهمتان تتعلقان بمجلس النواب العراقي. الأولى أُعلنت في وسائل الإعلام، وهي إزالة أحجار الحماية، أو كاسرات التفجيرات، إن صحت العبارة، وقد أخذناها قياساً على كاسرات الأمواج. فالأخيرة أشد بأساً وقهراً إذا طغت على اليابسة. أما الثَّانية فمازالت طي الكتمان تتناقل همساً، وهي الورقتان الخطيتان اللتان تأخذهما كُتل سياسية مِن مرشحيها إلى مجلس النُّواب والوزارة، والمراكز العليا وأشباهها. واحدة تكتب فيها الاستقالة بلا تاريخ متى ما أراد رئيس الكتلة تقديمها، وأخرى فيها مجموعة شرائط، حسب المصطلح الفقهي. منها عدم الخروج عن رأي رئيس الكتلة، وعدم التَّصريح بما يخالف، وأن تعيين حماية عضو الكتلة يتم عبر رئاستها، والمقاسمة في الراتب في حالات المناصب الكبرى! ونتمنى مِن الكتل التي لم تتعرض للانشقاق، ولم يظهر عضو منها برأي ولو خفيف ضد مسارها وتوجهاتها، توضيح القضية الثانية، فليس هناك ما يخفى! فكيف يكون عضو مجلس النُّواب لساناً للشَّعب لا لرئيس الكتلة! وكيف يتصرف الوزير في وزارته، ماذا يفعل مع الفاسدين! وماذا يفعل مسؤولو المخابرات والأمن بأمن الناس، إذا كانوا مسلوبين بتعهد خطي! وبالجملة فإن المختارين للوظائف الكبرى، وبهذه الشَّرائط، ليسوا صالحين لها! يا إلهي، كم تشبه هاتان الورقتان وريقة التعهد التي كان يأخذها أمن النظام السابق مِن المشكوك فيهم سياسياً، وكانت تقود إلى المقصلة في حالة مخالفتها! فترك مَن ترك البلاد هروباً مِن إمضائها. وللجواهري (ت 1997): "كم ببغدادَ ألاعيبُ/ وأساطيرٌ أعاجيبُ/خَزِيتْ بَغدادْ مِن بَلدٍ/كلُّ شيءٍ فيه مقلوبُ" (الديوان). عطل البرلمان العراقي جلساته، في الأَسبوع الماضي، بسبب إزالة تلك الأحجار من أمام مدخل البناية، وهي تقع وسط المنطقة الخضراء التي عُرفت بهذا الاسم منذ التاسع مِن أبريل 2003، وغابَ اسمها الأول "كرادة مريم"، فقيل نسبةً إلى دفينتها المرأة الصالحة مريم، من العهد العثماني (رؤوف، الأُصول التاريخية لمحلات بغداد). وغيب اسمها الأخير اسمها العباسي "طسوج بادوُرَيا". ولخصب المكان وإشرافه على دجلة قال فيه كبير كُتاب الخلافة ابن الفرات (ت 291 ه): "مَن استقل مِن الكُتاب ببادوُرَيا استقل بديوان الخراج، ومَن استقل بديوان الخراج استقل بالوزارة، وذلك لأن معاملتها مختلفة، وقصبتها الحَضرة، والمعاملة فيها مع الأمراء والوزراء والقُواد والكتاب والأشراف..."(الحموي، معجم البلدان). لقد أصبحت الموانع الإسمنتية أو الكونكريتية، رمزاً للحياة والموت معاً، ورمزاً للأبهة أيضاً، فكلما تصاعدت أهمية الدائرة علت الصخور الكواسر أمامها، فرفعها مِن أمامها يعني تهديداً مباشراً لأمنها، وعلى وجه الخصوص في هذه الأيام الحاسمة في مصير رئيس الوزراء نوري المالكي، وهي رسالة صريحة: أنا أحميكم وأنا أُبيدكم، أي أترككم وجهاً لوجه مع الإرهاب، وهذه الممارسة تشبه إلى حد بعيد الموت أو الإعدام "بطرح الإنسان للسِّباع" (الشَّالجي، موسوعة العذاب). فليس لنا نفي الأسدوية (نسبة إلى الأسد وبلغة أهل العِراق السَّبع) عن الانتحاريين، فماذا تعمل مع مَن جاء ليموت، إلا الاحتماء وراء صخرة كاسرة! بطبيعة الحال، فإن أصحاب معامل تلك الكواسر، وهي الصِّناعة الرائجة، لا يتمنون أن يتوقف الإرهاب، ومَن أدراكَ فربَّما يساهمون في تقويض الأمن بين فترة وأخرى، شأنهم شأن حفاري القبور الذين رزقهم على الموت، إلى درجة، وبشكل تلقائي، يُعرف الذي يُبلغ عن وصول جنازة إلى مقبرة وادي السلام بالنجف بالمبشر، لأنه بشر الدَّفان بوصول جنازة، ويأخذ بشارته منه، بعد أن يخرج إلى عرض الطريق مترقباً وصول الجنائز. هناك نوع مِن التكافل والتعاقد، غير المقصود، بين فتاوى الموت والانتحاريين وأصحاب معامل تلك الأحجار، وتضامن بين العاملين في مجال الحمايات، الأجنبية والمحلية على حدٍ سواء، ومالكي معامل صناعة الكواسر، وهو تضامن رأس مال. يختزل مجلس النواب، وهو السلطة التشريعية للبلاد، إضرابه بسبب رفع الأحجار الحامية لبوابة بنايته، المشهد العراقي، وهو أن الحجرة الإسمنتية تتحكم بالموت والحياة، ومثلما تحمي هذه الأحجار من الموت كذلك أدت المهمة وعزلت سكان المدينة الواحدة عن بعضهم بعضاً، فصارت رمزاً للطائفية، مثلما هي علامات للحدود بين البلدان، وهنا حصل أصحاب معاملها أو شركات إنتاجها على مبررٍ آخر لوجود وتطوير إنتاجهم، ما زال هناك عزل طائفي فهي صناعة وتجارة رائجة، فما قيمة صناعة الألبان وزراعة الحنطة والشَّعير مقابل رواجها وعظمة أرباحها؟! يغلب على الظن أن العراق هو البلد الأول في صناعة هذه البضاعة لأنه الأكثر قتلى. يصعب اعتبار رفع الأحجار من أمام البرلمان بريئاً من ردة فعل استجواب وسحب الثقة من رئيس الوزراء، إنه رسالة تهديد، مثلما تقدم، ويراد به مراجعة النواب لأنفسهم في دخول بناية مشرعة أبوابها أمام السيارات المفخخة. إضافة إلى عرقلة عمل مجلس النواب، في هذه الأيام بالذات. فرسالة رفع الأحجار، في أجواء محاولة سحب الثقة تقول: إن الحكومة من القوة كقوة هذه الموانع، الحياة بوجودها والموت بزوالها! لستُ مع سحب الثقة أو عدم سحبها، فعندي سواء مازالت نيابة الشعب وإدارة شؤونه وأمنه بالبيع والشراء مثلما ذكرنا، لكن ما يدور ويمور داخل المنطقة الخضراء خرافة في خرافة، ومهزلة أم المهازل، مثلما تعود العراقيون على تسميات من هذا القبيل: أم المعارك، أم الحواسم! أطالب الكتل المعنية، في ضمان ولاء نوابها وموظفيها في دوائر الدولة، بالخروج والنفي إذا كان ذلك ملفقاً عليها، أو التصريح بالحقيقة، وما كتبنا هذا إلا من باب الحرص والتنبيه ومن الأماني أن يثبت عكسها. فالكارثة ليست إزالة الأحجار ، إنما في إزالة الضمائر. ولصالح الجعفري (ت 1979) ما يُعجبنا ولا يُعجبهم: "أَكلُ هذا الرَّقص يا بغداد مِن/ أجلِ كراسي نتنها لا يُحتمل/ يا رقصة الكرسي في بغداد/ أشبهكِ برقصة الجعلِ" (الخاقاني، شعراء الغري). لمن لا يعرف الجعل، فهو دويبة شديدة السواد أكبر مِن الخنفساء، يُكنى بأبي الجعران "لأنه يجمع الجعر اليابس ويدخره في بيته" (الدميري، حياة الحيوان الكرى). وبطبيعة الحال، فزوال الأحجار يعني الفرج بعد الشدة، وعلامة على استرجاع عافية البلاد، لكن زوال الضمائر يعني أن الأحجار كواسر الإرهاب ثابتة في المكان، ووجودها يوجز قوة الإرهاب، فله حاضنة هي هذا الضَّمير الزَّائل بورقتين. نقلا عن صحيفة الاتحاد